{وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}
أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد نبياً منهم اسمه هود {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ} أي اعبدوا الله وحده دون الآلهة والأوثان {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ} أي ليس لكم معبودٌ غيره يستحق العبادة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا
مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في عبادتكم غير الله إلا كاذبون عليه جل وعلا، لأنه لا
إله سواه {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي لا أطلب منكم
على النصح والبلاغ جزاءً ولا ثواباً {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي} أي ما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني {أَفَلا
تَعْقِلُونَ} أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون أن من يدعوكم إلى الخير دون إرادة
جزاءٍ منكم هو لكم ناصح أمين؟ والاستفهام للإِنكار والتقريع {وَيَا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي استغفروه من الكفر والإِشراك {ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ} أي ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة على دينه والتمسك بالإِيمان
والتوحيد {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أي يرسل عليكم المطر
غزيراً متتابعاً، رُوي أن عاداً كان حُبس عنهم المطر ثلاث سنين حتى كادوا يهلكون،
فأمرهم هودٌ بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بنزول الغيث والمطر، وفي الآية دليل
على أن التوبة والاستغفار، سببٌ للرحمة ونزول الأمطار {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً
إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي ويزدكم عزاً وفخاراً فوق عزكم وفخاركم، قال
مجاهد: شدة إلى شدتكم، فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش حتى قالوا {من أشدُّ
منا قوة}؟ {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه
مصرّين على الإِجرام، وارتكاب الآثام {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ} أي ما جئتنا بحجةٍ واضحة تدل على صدقك، قال الآلوسي: وإنما
قالوه لفرط عنادهم، أو لشدة عَمَاهم عن الحق {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي
آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي لسنا بتاركين عبادة الأصنام من أجل قولك
{وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي لسنا بمصدقين لنبوتك ورسالتك، والجملة
تقنيطٌ من دخولهم في دينه، ثم نسبوه إلى الخبل والجنون فقالوا {إِنْ نَقُولُ
إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا
بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها، قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة
على أن القوم كانوا جفاةً، غلاظ الأكباد، لا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم
للرشد، وقد دلَّ قولهم الأخير على جهلٍ مفرط، وبلَهٍ متناهٍ، حيث اعتقدوا في حجارة
أنها تنتصر وتنتقم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} أي قال هودٌ إني أشهدُ
الله على نفسي {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} أي وأشهدكم
أيضاً أيها القوم بأنني بريءٌ مما تشركون في عبادة الله من الأوثان والأصنام
{مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي فاحتالوا في
هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين، قال أبو السعود: وهذا من أعظم
المعجزات، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاة عاد، الغلاظ
الشداد، وقد حقّرهم وهيّجهم بانتقاص آلهتهم، وحثهم على التصدّي له فلم يقدروا على
مباشرة شيء، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، وقال الزمخشري: من أعظم الآيات
أن يُواجه بهذا الكلام رجلٌ واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوسٍ واحدة،
وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ومثله قول نوح {فأجمعوا
أمركم وشركاءكم} {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي
إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي ما من نسمةٍ تدبُّ على وجه الأرض إلا هي في
قبضته وتحت قهره، والأخذُ بالناصية تمثيلٌ للملك والقهر، والجملةُ تعليلٌ لقوة
توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} أي إن ربي عادل، يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم
أحداً شيئاً {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ} أي فإِن تُعرضوا عن قبول دعوتي فقد أبلغتكم أيها القوم رسالة ربي،
وما على الرسول إلا البلاغ {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي
فسوف يهلككم الله ويستخلف قوماً آخرين غيركم، وهذا وعيدٌ شديد {وَلا
تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} أي لا تضرون الله شيئاً بإشراككم {إِنَّ رَبِّي عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي إنه سبحانه رقيبٌ على كل شيء، وهو يحفظني من شركم
ومكركم {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي ولما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل
بهم من الريح العقيم {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامنوا
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}
أي نجينا من العذاب هوداً والمؤمنين بفضلٍ عظيم ونعمة منا عليهم
{وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي وخلصناهم من ذلك العذاب الشديد،
وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن، وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من
أدبارهم، وتصرعهم على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخلٍ خاوية {وَتِلْكَ عَادٌ
جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الإِشارة لآثارهم أي تلك آثار المكذبين من قوم
عاد انظروا ماذا حلّ بهم، حين كفروا بالله، وأنكروا آياته في الأنفس والآفاق الدالة
على وحدانيته؟ {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أي عصوا رسوله هوداً، وجمعه تفظيعاً
لحالهم، وإظهاراً لكمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل
السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي أطاعوا أمر كل مستكبر على الله، حائدٍ عن الحق، لا يُذعن
له ولا يقبله، يريد به الرؤساء والكبراء {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
لَعْنَةً} أي وأُلحقوا باللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا {وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ} أي ويوم القيامة أيضاً تلحقهم اللعنة، قال الرازي : جعل
اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة الإِبعادُ من
رحمة الله تعالى ومن كل خير { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} هذا
تشنيعٌ لكفرهم وتهويلٌ بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد أي ألا فانتبهوا إنَّ عاداً
كفروا بربهم إذْ عبدوا غيره، وجحدوا نعمته إذ كذبوا رسوله، فاستحقوا اللعنة في
الدنيا، واللعنة في الآخرة {أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي أبعدهم
الله من الخير، وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية بالهلاك
واللعنة.
قصة
صالح عليه السلام مع قومه
{وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
أي ولقد أرسلنا إلى قوم ثمود نبياً منهم وهو صالح عليه السلام {قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده ليس
لكم ربٌّ معبود سواه {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}
أي هو تعالى ابتدأ خلقكم من الأرض، فخلق آدم من تراب ثم ذريته من نطفة
{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا
إليه بالطاعة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} أي إنه سبحانه قريب الرحمة
مجيب الدعاء {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ
هَذَا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً قبل تلك المقالة فلما قلتها انقطع
رجاؤنا فيك {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي أتنهانا
يا صالح عن عبادة الأوثان التي عبدها آباؤنا؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي وإننا لشاكون في دعواك، وأمرُك مريب يوجب
التهمة {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي} أي أخبروني إن كنتُ على برهانٍ وحِجة واضحةٍ من ربي {وَآتَانِي
مِنْهُ رَحْمَةً} أي وأعطاني النبوة والرسالة {فَمَنْ
يَنصُرُنِي
مِنَ اللَّهِ
إِنْ عَصَيْتُهُ}
أي فمن يمنعني من عذاب الله إن عصيت أمره؟ {فَمَا تَزِيدُونَنِي} أي فما
تزيدونني بموافقتكم وعصيان أمر الله غير تضليل وإبعاد عن الخير، قال
الزمخشري: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يعني تخسّرون أعمالي وتبطلونها {وَيَا
قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} أضاف الناقة إلى الله تشريفاً لها
لأنها خرجت من صخرة صماء بقدرة الله حسب طلبهم أي هذه الناقة معجزتي لكم وعلامة على
صدقي {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي دعوها تأكل وتشرب في أرض
الله فليس عليكم رزقها {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
قَرِيبٌ} أي لا تنالوها بشيءٍ من السوء فيصيبكم عذاب عاجل لا يتأخر عنكم
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} أي
ذبحوا الناقة فقال لهم صالح: استمتعوا بالعيش في بلدكم ثلاثة أيام ثم تهلكون،
قال القرطبي: إنما عقرها بعضهم وأضيف إلى الكل لأنه كان برضى الباقين، فعقرت
يوم الأربعاء فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد
{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي وعدٌ حق غير مكذوب فيه {فَلَمَّا
جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ ءامنوا
مَعَهُ}
أي فلما جاء أمرنا بإهلاكهم نجينا صالحاً ومن آمن به {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أي
بنعمةٍ وفضلٍ عظيم من الله {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من هوان
ذلك اليوم وذُلّه {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} أي القوي في
بطشه، العزيز في ملكه، لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر {وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي أخذتهم
صيحةٌ من السماء تقطعت لها قلوبهم، فأصبحوا هامدين موتى لا حِرَاك بهم كالطير إذا
جثمت {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي كأن لم يقيموا في ديارهم ولم
يَعْمُروها {أَلا إِنَّ ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا
لِثَمُودَ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن ثمود كفروا بآيات ربهم فسحقاً لهم
وبُعْداً، وهلاكاً ولعنة.
قصة
إبراهيم عليه السلام مع الملائكة المبشرين له بإسحاق ويعقوب عليهما
السلام
{وَلَقَدْ
جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}هذه هي القصة الرابعة وهي قصة لوط وهلاك قومه المكذبين أي جاءت الملائكةُ الذين
أرسلناهم لإِهلاك قوم لوط إبراهيمَ بالبشارة بإسحاق، قال القرطبي: لما أنزل
الله الملائكة لعذاب قوم لوط مرّوا بإبراهيم فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل
وإسرافيل، قاله ابن عباس: وقال السدي: كانوا أحد عشر ملَكاً على صورة
الغلمان الحسان الوجوه {قَالُوا سَلامًا} أي سلموا عليه سلاماً {قَالَ
سَلامٌ} أي قال لهم إبراهيم: سلام عليكم، قال المفسرون: ردَّ عليهم
التحية بأحسن من تحيتهم لأنه جاء بها جملة اسميّة وهي تدل على الثبات والاستمرار
{ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي فما أبطأ ولا تأخر مجيئه
حتى جاء بعجلٍ مشويٍّ فقدمه لهم، قال الزمخشري: والعجل: ولد البقرة ويسمى
"الحسيل" وكان مال إبراهيم عليه السلام البقر، والحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في
أخدود وقيل: الذي يقطر دسمه ويدل عليه "بعجلٍ سمين" {فَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} أي فلما رآهم لا يمدون أيديهم إلى
الطعام ولا يأكلون منه أنكرهم {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أحسَّ منهم
الخوف والفزع، قال قتادة: كان العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم
ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه جاء يحدث نفسه بشرّ {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} أي قالت الملائكة: لا تخف فإِنا ملائكة ربك لا
نأكل، وقد أُرسلنا لإِهلاك قوم لوط {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أي
وامرأة إبراهيم واسمها "سارة" قائمة وراء الستر تسمع كلامهم فضحكت استبشاراً بهلاك
قوم لوط { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}
أي بشرتها الملائكة بإسحاق ولداً لها ويأتيه مولودٌ هو يعقوب ابناً لولدها
{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}
أي قالت سارة معجبة: يا لهفي ويا عجبي أألد وأنا امرأة مسنّة وهذا زوجي إبراهيم شيخ
هرم أيضاً فكيف يأتينا الولد؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي إن هذا
الأمر لشيء غريب لم تجر به العادة، قال مجاهد: كانت يومئذٍ ابنة تسع وتسعين
سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ} أي أتعجبين من قدرة الله وحكمته في خلق الولد من زوجين هرمين؟ ليس هذا
بمكان عجب على قدرة الله {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ
الْبَيْتِ} أي رحمكم الله وبارك فيكم يا أهل بيت إبراهيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ} أي إنه تعالى محمود ممجّد في صفاته وذاته، مستحقٌ للحمد والتمجيد من
عباده، وهو تعليل بديع لما سبق من البشارة {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
الرَّوْعُ} أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه
لضيوفه حين علم أنهم ملائكة {وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} أي جاءته البشارة
بالولد {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك
قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون، قال المفسرون: لما قالت
الملائكة: {إنا مهلكوا أهل هذه القرية} قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون
من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال يتنزّل معهم
حتى قال لهم: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونهم ؟ قالوا لا فقال لهم
{إِن فيها لوطاً، قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينَّه وأهله إِلا امرأته كانت من
الغابرين} {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} أي غير عجولٍ في الانتقام من
المسيء إِليه {أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة
قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}
أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم
{إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي جاء أمر الله بإِهلاكهم
{وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي نازلٌ بهم عذابٌ غير
مصروفٍ عنهم ولا مدفوع.
قصة
لوط عليه السلام مع قومه
{وَلَمَّا
جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ}
أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من
قومه {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه
الأشرار {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد في الشر {وَجَاءَهُ
قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف
كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ} أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم إِتيان الرجال وعمل الفاحشة
فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين، قال القرطبي: وكان سبب
إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها
فقالت لهم: إِن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا
يُهرعون إِليه {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}
أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإِنما قال
بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا
تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي} أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي
{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل
يمنع عن القبيح؟ {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ
حَقٍّ} أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب، وليس لنا
رغبة فيهن {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أي وأنت تعلم غرضنا وهو
إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً} أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها {أَوْ آوِي
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب "لو"
محذوف تقديرة لبطشتُ بكم وفي الحديث (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ
شديد) يريد صلى الله عليه وسلم أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده
القوي، قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في
منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي قالت
الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا
مكروه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}
أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل، قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك
ببقية من الليل {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ} أي لا
ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نهُوا عن الالتفات لئلا
تتفظر أكبادهم على قريتهم، قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة
العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا
أَصَابَهُمْ} أي إِنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك {إِنَّ
مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ} أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ { أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت
الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه،
فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة
ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم
جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما
قال تعالى: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم} ثم إِن لوطاً سرى بمن معه
قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط -وهي خمسٌ-
من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة،
ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي فلما جاء
وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من
نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها {مَنْضُودٍ} أي متتابعة، بعضُها في
إِثر بعض {مُسَوَّمَةً} أي معلَّمة بعلامة، قال الربيع: قد كتب على
كل حجر اسم من يُرمى به، قال القرطبي: وقوله {عِنْدَ رَبِّكَ} دليلٌ
على أنها ليست من حجارة الأرض {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ
بِبَعِيدٍ}
أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك "كفار قريش" فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم
أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف بـ
"البحر الميت" لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم "بحيرة لوط"
والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً.
قصة
شعيب عليه السلام مع قومه
{وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}
هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين
أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال "أخاهم" {قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده فليس
لكم ربٌ سواه {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي لا تنقصوا
الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن {إِنِّي
أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي إِني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان،
قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم {وَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب
يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة {وَيَا قَوْمِ
أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي أتموا الكيل والوزن للناس
بالعدل {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم
شيئاً {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تسعوا بالفساد في
الأرض، والعثيُّ أشد الفساد {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ} أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن
كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده، وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم {وَمَا
أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها
وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} لما أمرهم شعيب عليه السلام
بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على
سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي
عبدها آباؤنا؟ إِن هذا لا يصدر عن عاقل {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا
مَا نَشَاءُ} أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان. قال الإِمام
الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره
بهذين النوعين فقوله {ما يعبد آباؤنا} إِشارة إِلى التوحيد، وقوله {نَفْعَلَ فِي
أَمْوَالِنَا} إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك
يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير
الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم {أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ} السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً
فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ {إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ
الرَّشِيدُ} أي إِنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري:
يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا
الكلام {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍمِنْ
رَبِّي} أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهانٍ من ربي وهو الهداية
والنبوة {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي أعطاني المال الحلال، فقد
كان عليه السلام كثير المال، قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي
أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقينٍ من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن
لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لست
أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي {إِنْ أُرِيدُ إِلا
الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي لا أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا
إصلاحكم وإِصلاح أمركم بقدر استطاعتي {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ} أي
ليس التوفيق إِلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى
أرجع بالتوبة والإِنابة {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي لا
يكسبنكم عداوتي {أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ
هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم
هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة، وقال الحسن: المعنى لا يحملنكم معاداتي على
ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ
بِبَعِيدٍ} أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون
وتعتبرون!؟ {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي استغفروا
ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ
وَدُودٌ} أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أي قالوا
لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به، قال
الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم
والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه
كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا
ضَعِيفًا} أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا {وَلَوْلا رَهْطُكَ
لَرَجَمْنَاكَ} أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار {وَمَا أَنْتَ
عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}؟
هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟
فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه
كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه
{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا
تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ، قال
الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم
يلتفت إليها {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي إنه جل وعلا قد
أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ
على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على
الإِسلام والمصابرة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}
أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي
وتعلمون من هو الكاذب {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا
عاقبة أمركم إنني منتظر معكم {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا
وَالَّذِينَ
ءامنوا
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}
أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم
{وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ
العذاب، قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم
{فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي موتى هامدين لا حراك بهم،
قال ابن كثير: وذكر ههنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء
عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإِنما
ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي كأنّهم لم
يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك { أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ
ثَمُودُ} قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته،
كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم.
إعراض
قوم موسى واتباعهم لفرعون
{وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع
وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزاتٍ قاهرة، وبينات باهرة، كالعصا واليد
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} أي إِلى فرعون وأشراف قومه {فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله {وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى،
وإِنما هو جهل وضلال {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يتقدم
أمامهم إِلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا {فَأَوْرَدَهُمْ
النَّارَ} أي أدخلهم نار جهنم {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} أي بئس
المدخل المدخول هي {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً} أي أُلحقوا فوق
العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي
وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي بئس
العونُ المُعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في
الدارين.
العظة
والاعتبار من الأمم الظالمة
{ذَلِكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}
أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل، نقصه عليك
يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي من هذه
القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم
يبق له أثر كالزرع المحصود {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا
أَنفُسَهُمْ} أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر
والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي ما نفعتهم آلهتهم التي
عبدوها من دون الله، ولا دفعت عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه {لَمَّا جَاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ} أي حين جاء قضاء الله بعذابهم {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ
تَتْبِيبٍ} أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير {وَكَذَلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك
الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة
الظلمة، قال الألوسي: وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه
السلام (إِن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ الآية {إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي إِن عذابه موجع شديد، وهذا مبالغة في التهديد
والوعيد.
العبرة
بجزاء الآخرة لكل من الأشقياء والسعداء
{إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ}
أي إِن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة
{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} أي يجتمع فيه الخلائق للحساب
والثواب والعقاب {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} أي يشهده أهل السماء والأرض،
والأولون والآخرون، قال ابن عباس: يشهده البر والفاجر {وَمَا نُؤَخِّرُهُ
إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ
معيَّن سبق به قضاء الله، لا يتقدم ولا يتأخر {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا