بَين
يَدَي السُّورَة
*
سورةُ
الكهف
من السور المكية، وهي إِحدى سورٍ خمس بُدئت بـ "الحمدُ لله" وهذه السور هي
"الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر" وكلُّها تبتدئ بتمجيد الله جل وعلا وتقديسه،
والاعتراف له بالعظمة والكبرياء، والجلال والكمال.
* تعرضت
السورة
الكريمة لثلاث قصص من روائع قصص القرآن، في سبيل تقرير أهدافها الأساسية لتثبيت
العقيدة، والإيمان بعظمة ذي الجلال ..
أما
الأولى فهي قصة "أصحاب الكهف" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة، وهم الفتية
المؤمنون الذي خرجوا من بلادهم فراراً بدينهم، ولجأوا إلى غارٍ في الجبل، ثم مكثوا
فيه نياماً ثلاثمائة وتسع سنين، ثم بعثهم الله بعد تلك المدة
الطويلة.
* والقصة
الثانية: قصة
موسى مع الخضر، وهي قصة التواضع في سبيل طلب العلم، وما جرى من الأخبار الغيبية
التي أطلع الله عليها ذلك العبد الصالح "الخضر" ولم يعرفها موسى عليه السلام حتى
أعلمه بها الخضر كقصة السفية، وحادثة قتل الغلام، وبناء
الجدار.
* والقصة
الثالثة: قصة
"ذي القرنين" وهو ملك مكَّن الله تعالى له بالتقوى والعدل أن يبسط سلطانه على
المعمورة، وأن يملك مشارق الأرض ومغاربها، وما كان من أمره في بناء السدِّ
العظيم.
* وكما
استخدمت
السورة - في سبيل هدفها - هذه القصص الثلاث، استخدمت أمثلة واقعية ثلاثة، لبيان أن
الحقَّ لا يرتبط بكثرة المال والسلطان، وإِنما هو مرتبط
بالعقيدة.
المثل
الأول: للغني
المزهوّ بماله، والفقير المعتز بعقيدته وإِيمانه، في قصة أصحاب
الجنتين.
والثاني:
للحياة
الدنيا وما يلحقها من فناء وزوال.
والثالث:
مثل
التكبر والغرور مصوراً في حادثة امتناع إبليس عن السجود لآدم، وما ناله من الطرد
والحرمان، وكل هذه القصص والأمثال بقصد العظة والاعتبار.
التسِـــمَيـــة:
سميت
"سورة الكهف" لما فيها من المعجزة الربانية، في تلك القصة العجيبة الغريبة قصة
أصحاب الكهف.
خلاصة
قصة أصحاب الكهف كما ذكرها المفسرون، أن ملكاً جباراً يسمى دقيانوس، ظهر على بلدةٍ
من بلاد الروم تدعى "طرطوس"، بعد زمن عيسى عليه السلام، وكان يدعو الناس إلى عبادة
الأصنام ويقتل كل مؤمن لا يستجيب لدعوته الضالة، حتى عظمت الفتنة على أهل الإِيمان،
فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً وبلغ خبرهُم الملك الجبار فبعث في طلبهم
فلما مثلوا عند الملك توعدهم بالقتل إن لم يعبدوا الأوثان ويذبحوا للطواغيت، فوقفوا
في وجهه وأظهروا إيمانهم وقالوا {رَبُّنَا
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ
إِلَهًا}
فقال
لهم: إنكم فتيانٌ حديثةٌ أسنانكم وقد أخّرتكم إلى الغد لتروا رأيكم، فهربوا ليلاً
ومرّوا براعٍ معه كلب فتبعهم فلما كان الصباح آووا إلى الكهف وتبعهم الملك وجنده
فلما وصلوا إلى الكهف هاب الرجال وفزعوا من الدخول عليهم، فقال الملك: سدّوا عليهم
باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً، وألقى الله على أهل الكهف النوم فبقوا
نائمين وهم لا يدرون ثلاث مئة وتسع سنين ثم أيقظهم الله وظنوا أنهم أقاموا يوماً أو
بعض يوم، وشعروا بالجوع فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً وطلبوا منه التخفي والحذر
فسار حتى وصل البلدة فوجد معالمها قد تغيرت ولم يعرف أحداً من أهلها فقال في نفسه:
لعلي أخطأت الطريق إلى البلدة ثم اشترى طعاماً ولما دفع النقود للبائع جعل يقلبها
في يده، ويقول: من أين حصلت على هذه النقود؟ واجتمع الناس وأخذوا ينظرون لتلك
النقود ويعجبون، ثم قالوا من أنت يا فتى لعلك وجدت كنزاً؟ فقال لا والله ما وجدت
كنزاً إنها دراهم قومي، قالوا له إنها من عهد بعيد ومن زمن الملك دقيانوس، قال: وما
فعل دقيانوس؟ قالوا مات من قرون عديدة، قال والله ما يصدقني أحد بما أقوله: لقد كنا
فتيةً وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان فهربنا منه عشية أمس فأوينا إلى الكهف
فأرسلني أصحابي اليوم لأشتري لهم طعاماً، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي،
فتعجبوا من كلامه ورفعوا أمره إلى الملك - وكان مؤمناً صالحاً - فلما سمع خبره خرج
الملك والجند وأهل البلدة وحين وصلوا إلى الغار سمعوا الأصوات وجلبَة الخيل فظنوا
أنهم رسل دقيانوس فقاموا إلى الصلاة فدخل الملك عليهم فرآهم يصلون فلما انتهوا من
صلاتهم عانقهم الملك وأخبرهم أنه رجل مؤمن وأن دقيانوس قد هلك من زمن بعيد وسمع
كلامهم وقصتهم وعرف أن الله بعثهم ليكون أمرهم آية للناس ثم ألقى الله عليهم النوم
وقبض أرواحهم فقال الناس: لنتخذن عليهم مسجداً.
الثناء
لله تعالى مُنَزِّل القرآن على الرسول صلى الله عليه
وسلم:
{الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} أي
الثناء الكامل مع التعظيم والإِجلال لله الذي أنزل على رسوله محمد القرآن نعمةً
عليه وعلى سائر الخلق {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}
أي
لم يجعل فيه شيئاً من العوج لا في ألفاظه ولا في معانيه، وليس فيه أي عيبٍ أو تناقض
{
قَيِّمًا}
أي
مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تناقض، قال الطبري: هذا من المُقدَّم والمؤخر أي
أنزل الكتاب قيّماً ولم يجعل له عِوَجاً يعني مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تفاوت،
ولا اعوجاج ولا ميل عن الحق، {لِيُنذِرَ
بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}
أي
لينذر بهذا القرآن الكافرين عذاباً شديداً من عنده تعالى {وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ}
أي
ويبشّر المصدقين بالقرآن الذين يعملون الأعمال الصالحة {أَنَّ
لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}
أي
أن لهم الجنة وما فيها من النعيم المقيم {مَاكِثِينَ
فِيهِ أَبَدًا}
أي
مقيمين في ذلك النعيم الذي لا انتهاء له ولا انقضاء {وَيُنذِرَ
الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}
أي
ويخوّف أولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد عذابه الأليم، قال البيضاوي:
خصَّهم بالذكر وكرَّر الإِنذار استعظاماً لكفرهم، وإِنما لم يذكر المُنْذَر به
استغناءً بتقدم ذكره {مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}
أي
ما لهم بذلك الافتراء الشنيع شيءٌ من العلم أصلاً {وَلا
لآبَائِهِمْ}
أي
ولا لأسلافهم الذين قلَّدوهم فتاهوا جميعاً في بيداء الجهالة والضلالة {كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
أي
عظمت تلك المقالة الشنيعة كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها؟ خرجت من أفواه أولئك
المجرمين، وهي في غاية الفساد والبطلان {إِنْ
يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا}
أي
ما يقولون إلا كذباً وسفهاً وزوراً {فَلَعَلَّكَ
بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}
أي
فلعلك قاتلٌ نفسك يا محمد ومهلكها غّماً وحزناً على فراقهم وتوليهم وإِعراضهم عن
الإِيمان {إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}
أي
إن لم يؤمنوا بهذا القرآن حسرةً وأسفاً عليهم، فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف
عليهم، والآية تسليةٌ للنبي عليه السلام {إِنَّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا}
أي
جعلنا ما عليها من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها زينة للأرض كما زينا السماء
بالكواكب {لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
أي
لنختبر الخلق أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته {وَإِنَّا
لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}
أي
سنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التي لا
نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء بهجة، قال القرطبي: الآية وردت لتسلية
النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإِنا إِنما
جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر، ثم إن
يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنَّ عليك كفرهُم فإِنا سنجازيهم.
قصة
أصحاب الكهف
{أَمْ
حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ
ءاياتِنا
عَجَبًا} ؟
بدء قصة أصحاب الكهف، والكهفُ الغار المتسع في الجبل، والرقيمُ اللوح الذي كتب فيه
أسماء الكهف على المشهور، والمعنى: لا تظننَّ يا محمد أن قصة أهل الكهف - على
غرابتها - هي أعجبُ ءايات
الله،
ففي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف، قال
مجاهد: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا؟ قد كان في ءاياتِنا
ما هو أعجب منهم {إِذْ
أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى
الْكَهْفِ}
أي
اذكر حين التجأ الشبان إلى الغار في الجبل وجعلوه مأواهم {فَقَالُوا
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}
أي أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً {وَهَيِّئْ
لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}
أي
أصلح لنا أمرنا كلَّه واجعلنا من الراشدين المهتدين {فَضَرَبْنَا
عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}
أي
ألقينا عليهم النوم في الغار سنين عديدة {ثُمَّ
بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
أَمَدًا}
أي
ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أيَّ الفريقين أدقُّ إحصاءً للمدة التي
ناموها في الكهف؟ قال ابن جزي: والمراد بالحزبين: أصحابُ الكهف، والذين
بعثهم الله إليهم حتى رأوهم وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف لما
استيقظوا اختلفوا في المدة التي لبثوها في الكهف، فقال بعضهم: يوماً أو بعض يوم
وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم، والقول الأول مرويّ عن ابن عباس
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}
أي
نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادةٍ ولا نقصان
{إِنَّهُمْ
فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
أي
إنهم جماعة من الشبان آمنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً {وَرَبَطْنَا
عَلَى قُلُوبِهِمْ}
أي
قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق معتزةً
بالإِيمان {إِذْ
قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
أي
حين قاموا بين يدي الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا: ربنا هو خالق
السماوات والأرض لا ما تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام {لَنْ
نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا}أي
لن نشرك معه غيره، فهو واحد بلا شريك {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا
شَطَطًا}
أي
لئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحقَّ، وحِدْنا على الصواب، وأفرطنا في الظلم
والضلال {هَؤُلاءِ
قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}
أي
هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة {لَوْلا
يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}
أي
هلاّ يأتون على عبادتهم لها ببرهان ظاهر، والغرض من أسلوب التحضيض {لَوْلا}
التعجيز
كأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحجة ظاهر على عبادتهم للأصنام فهم إذاً
كذبة على الله {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}
استفهام
بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك إليه تعالى {وَإِذْ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ}
أي
وإِذْا اعتزلتم أيها الفتية قومكم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى
{فَأْوُوا
إِلَى الْكَهْفِ}
أي
التجئوا إلى الكهف {يَنشُرْ
لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}
أي
يبسط ربكم ويوسّعْ عليكم رحمته {وَيُهَيِّئْ
لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا}
أي
يُسهّل عليكم أسباب الرزق وما ترفقون به من غداء وعشاء في هذا الغار {وَتَرَى
الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ
الْيَمِينِ}
أي
ترى أيها المخاطب الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة اليمين {وَإِذَا
غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ}
أي
وإِذا غربت تقطعهم وتُبعد عنهم جهة الشمال والغرض أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها
ولا عند غروبها كرامةً لهم من الله لئلا تؤذيهم بِحَرِّها {وَهُمْ
فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}
أي
في متَّسع من الكهف وفي وسطه بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار، ولا في
آخره {ذَلِكَ
مِنْ
ءايات
اللَّهِ}
أي
ذلك الصنيع من دلائل قدرة الله الباهرة، قال ابن عباس: لو أن الشمس تطلع
عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يُقلَّبون لأكلتهم الأرض {مَنْ
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}
أي
من يوفقه الله للإِيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً {وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}
أي
ومن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه {وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}
أي
لو رأيتهم أيها الناظر لظننتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}
أي
ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم {وَكَلْبُهُمْ
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ}
أي
وكلبهم الذي تبعهم باسطٌ يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم {لَوْ
اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ
رُعْبًا}
أي
لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم، وذلك لما ألبسهم الله
من الهيبة، فرؤيتهم تثير الرعب إذ يراهم الناظر نياماً كالأيقاظ، يتقلبون ولا
يستيقظون {وَكَذَلِكَ
بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ}
أي
كما أنمناهم كذلك بعثناهم من النوم وأيقظناهم بعد تلك الرقدة الطويلة التي تشبه
الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإقامتهم في الغار {قَالَ
قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ}
أي
قال أحدهم: كم مكثنا في هذا الكهف؟ فقالوا مكثنا فيه يوماً أو بعض اليوم قال
المفسرون: إنهم دخلوا في الكهف صباحاً وبعثهم الله في آخر النهار فلما استيقظوا
ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً، ثم رأوها لم تغرب فقالوا أو بعض يوم،
وما دروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُوا
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}
أي
قال بعضهم، الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل وراء البحث عنها، فخذوا بما هو أهم
وأنفع لكم فنحن الآن جياع {فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}
أي
فأرسلوا واحداً منكم إلى المدينة بهذه النقود الفضية {فَلْيَنظُرْ
أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}
أي
فليختر لنا أحلى وأطيب الطعام فليشتر لنا منه {وَلْيَتَلَطَّفْ
وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}
أي
وليتلطف في دخول المدينة، وشراء الطعام، حتى لا يشعر بأمرنا أحد {إِنَّهُمْ
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي
مِلَّتِهِمْ}
أي
إن يظفروا يقتلوكم بالحجارة أو يردوكم إلى دينهم الباطل {وَلَنْ
تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}
أي
وإن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخيرٍ أبداً، وهكذا يتناجى
الفتية فيما بينهم خائفين حذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى
عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بالتلطف بالدخول والخروج وأخذ الحيطة والحذر
{وَكَذَلِكَ
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ
السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا}
أي
وكما بعثناهم من نومهم كذلك أطلعنا الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث
ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على
إمكان البعث والنشور، فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم ثلاثمائة عام قادر
على بعث الخلق بعد مماتهم {إِذْ
يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}
أي
حين تنازع القوم في أمر أهل الكهف بعد أن أطلعهم الله عليه ثم قبض أرواحهم
{فَقَالُوا
ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}
أي
قال بعض الناس: ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علَماً عليهم {رَبُّهُمْ
أَعْلَمُ بِهِمْ}
أي
الله أعلم بحالهم وشأنهم {قَالَ
الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ
مَسْجِدًا}
أي
قال الفريق الآخر وهم الأكثرية الغالبة: لنتخذنَّ على باب الكهف مسجداً نصلي فيه
ونعبد الله فيه {سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}
أي
سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل
الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم {وَيَقُولُونَ
خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ}
أي
ويقول البعض: إنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم كمن يرمي
إلى مكان لا يعرفه {وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}
أي
ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب {قُلْ
رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}
أي
الله أعلم بحقيقة عددهم {مَا
يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ}
أي
لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، كانوا
سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة قال المفسرون: إن الله تعالى
لمّا ذكر القول الأول والثاني أردفه بقوله {رَجْمًا
بِالْغَيْبِ}
ولما
ذكر القول الأخير لم يقدح فيه بشيء، فكأنه أقر قائله ثم نبَّه رسوله إلى الأفضل
والأكمل وهو ردُّ العلم إلى علام الغيوب {فَلا
تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا}
أي
فلا تجادل أهل الكتاب في عدتهم إلا جدال متيقنٍ عالم بحقيقة الخبر {وَلا
تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}
أي
لا تسأل أحداً عن قصتهم فإِنَّ فيما أوحي إليك الكفاية {وَلا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ}
أي
لا تقولنَّ لأمر عزمت عليه إني سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة، فقلت إن شاء
الله، قال ابن كثير: سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن
قصة أصحاب الكهف قال: {غداً أجيبكم} فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوماً
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
أي
إذا نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرةً عظمة الله
{وَقُلْ
عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}
أي
لعلَّ الله يوفقني ويرشدني إلى ما هو أصلح من أمر ديني ودنياي {وَلَبِثُوا
فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواتِسْعًا}
أي
مكثوا في الكهف نائمين ثلاثمائة وتسع سنين، وهذا بيانٌ لما أُجمل في قوله تعالى
{
سِنِينَ عَدَدًا}
{قُلْ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}
أي
الله أعلم بمدة لبثهم في الكهف على وجه اليقين {لَهُ
غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
أي
هو تعالى المختص بعلم الغيب وقد أخبرك بالخبر القاطع عن أمرهم الحكيمُ الخبير
{أَبْصِرْ
بِهِ وَأَسْمِعْ}
أي
ما أبصره بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات
{مَا
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ}
أي
ليس للخلق ناصرٌ ولا معين غيره تعالى {وَلا
يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}
أي
ليس له شريك ولا مثيل ولا نظير، ولا يقبل في قضائه وحكمه أحداً لأنه الغنيّ عما
سواه.
توجيهات
للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمين للمؤمنين
المنَــاسَبَة:
لما
ذكر تعالى قصة أهل الكهف وهي تُمثل صور التضحية والبطولة في سبيل العقيدة
والإِيمان، أعقبها بذكر قصة صاحب الجنتين، وهي نموذج آخر للعقيدة ممثلة في قصة
الأخوين من بني إسرائيل: المؤمن المعتز بإِيمانه، والكافر وهو صاحب الجنتين، وما
فيها من عبر وعظات، وفي ثنايا الآيات جاءت بعض التوجيهات القرآنية
الكريمة.
سَبَب
النزّول:
رُوي
أن أشراف قريش اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: إن أردت أن
نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك يعنون "بلالاً، وخباباً، وصهيباً" وغيرهم
فإِنا نأنف أن نجتمع بهم، وتعيِّن لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك، فأنزل الله
{وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
..}
الآية.
{وَاتْلُ
مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}
أي
إقرأ يا محمد ما أوحاه إليك ربك من ءايات
الذكر
الحكيم {
لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا يقدر أحدٌ أن يغيّر أو يبدّل كلام الله
{
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}
أي
لن تجد ملجأ غير الله تعالى أبداً {
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ}
أي
احبس نفسك مع الضعفاء والفقراء من المسلمين الذين يدعون ربهم بالصباح والمساء
{يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ}
أي
يبتغون بدعائهم وجه الله تعالى {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}
أي
لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف، قال المفسرون: كان عليه السلام
حريصاً على إِيمان الرؤساء ليؤمن أتباعهم، ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قط، فأمِر
أن يجعل إِقباله على فقراء المؤمنين، وأن يُعرض عن أولئك العظماء والأشراف من
المشركين {تُرِيدُ
زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
أي
تبتغي بمجالستهم الشرف والفخر، قال ابن عباس: لا تجاوزهم إلى غيرهم تطلب بدلهم
أصحاب الشرف والثروة {وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}
أي لا تطع كلام الذين سألوك طرد المؤمنين، فقلوبهم غافلة عن ذكر الله، وقد شغلوا عن
الدين وعبادةِ ربهم بالدنيا، قال المفسرون: نزلت في عُيينة بن حصن وأصحابه،
أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء منهم "سلمان الفارسي" وعليه
شملة صوف قد عرق فيها، فقال عُيينة للنبي صلى الله عليه وسلم: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟
ونحن سادةُ مضر وأشرافُها إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء
فنحِّهمْ عنك حتى نتبعك، أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلس، فهمَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يجيبهم إلى ما طلبوا فلما، نزلت الآية خرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم يلتمس هؤلاء الفقراء فلما رآهم جلس معهم وقال {الحمد لله الذي جعل في أُمتي
من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم}، {وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ}
أي
سار مع هواه وترك أمر الله {وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا}
أي
كان أمره ضياعاً وهلاكاً ودماراً {وَقُلْ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
ظاهرهُ
أمرٌ وحقيقته وعيدٌ وإِنذار، أي قل يا محمد لهؤلاء الغافلين لقد ظهر الحق وبان
بتوضيح الرحمن فإِن شئتم فآمنوا وإِن شئتم فاكفروا كقوله {اعملوا
ما شئتم}،
{إنّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}
أي
هيأنا للكافرين بالله ورسوله ناراً حاميةً شديدة أحاط بهم سورها كإِحاطة السوار
بالمعصم {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ}
أي
وإِن استغاثوا من شدة العطش فطلبوا الماء أُغيثوا بماءٍ شديد الحرارة كالنحاس
المذاب أو كعكر الزيت المحمى يشوي وجوههم إذا قَرُب منهم من شدة حره وفي الحديث
(ماءُ كعكر الزيت فإِذا قُرب إليه سقطت فروة وجهه فيه) أي سقطت جلدة وجهه فيه
أعاذنا الله من جهنم {بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}
أي
بئس ذلك الشراب الذي يُغاثون به وساءت جهنم منزلاً ومقيلاً يرتفق به أهل النار
{إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ
أَحْسَنَ عَمَلاً}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر حال السعداء، على طريقة القرآن في الترغيب
والترهيب، أي إنا لا نضيع ثواب من أحسن عمله وأخلص فيه بل نزيده وننميه
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}
أي
لهم جنات إقامة {تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ}
أي
تجري من تحت غرفهم ومنازلهم أنهار الجنة {يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}
أي
يُحلَّون في الجنة بأساور الذهب، قال المفسرون: ليس أحد من أهل الجنة إلا
وفي يده ثلاثة أساور: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، لأن الله تعالى
قال {وحلوا
أساور من فضة}
وقال
{ولؤلؤاً
ولباسهم فيها حرير}
وفي
الحديث (تبلغ حلية المؤمن من حيث يبلغ الوضوء) {وَيَلْبَسُونَ
ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}
أي
وهم رافلون في ألوانٍ من الحرير، برقيق الحرير وهو السندس، وبغليظه وهو
الاستبرق، قال الطبري: معنى الآية أنهم يلبسون من الحلي أساور من ذهب،
ويلبسون من الثياب السندس وهو ما رقَّ من الديباج، والاستبرق وهو ما غلظ فيه وثَخُن
{مُتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ}
أي
متكئين في الجنة على السرر الذهبية المزينة بالثياب والستور، قال ابن عباس:
الأرائك الأسرة من ذهب وهي مكلَّلة بالدُر والياقوت عليها الحجال، الأريكةُ ما بين
صنعاء إلى أيلة، وما بين عدن إلى الجابية{نِعْمَ
الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}أي
نعم ذلك جزاء المتقين، وحسنت الجنة منزلاً ومقيلاً لهم.
مثل
الغني الكافر والفقير المؤمن
{وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ}
أي
أضرب لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن تطرد الفقراء هذا المثل، قال
المفسرون: هما أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، ورثا مالاً عن
أبيهما، فاشترى الكافر بما له حديقتين،وأنفق المؤمن ماله في مرضاة الله حتى نفد
ماله، فعيَّره الكافر بفقره، فأهلك الله مال الكافر، وضرب هذا مثلاً للمؤمن الذي
يعمل بطاعة الله، والكافر الذي أبطرته النعمة {جَعَلْنَا
لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ}
أي
جعلنا لأحدهما - وهو الكافر - بستانينِ من شجر العنب، مثمريْن بأنواع العنب اللذيذ
{وَحَفَفْنَاهُمَا
بِنَخْلٍ}
أي
أحطناهما بسياجٍ من شجر النخيل {وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمَا زَرْعًا}
أي
جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ويتفجر بينهما نهر، وإنه لمنظرٌ بهيجٌ يصوره القرآن
أروع تصوير، منظر الحديقتين المثمرتين بأنواع الكرم، المحفوفتين بأشجار النخيل،
تتوسطهما الزروع وتتفجر بينهما الأنهار {كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}
أي
كلُّ واحدة من الحديقتين أخرجت ثمرها يانعاً في غاية الجودة والطيب ولم تنقص منه
شيئاً {وَفَجَّرْنَا
خِلالَهُمَا نَهَرًا}
أي
جعلنا النهر يسير وسط الحديقتين {وَكَانَ
لَهُ ثَمَرٌ}
أي
وكان للأخ الكافر من جنتيه أنواع من الفواكه والثمار {فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ
نَفَرًا}
أي
قال صاحب الجنتين لأخيه المؤمن وهو يجادله ويخاصمه ويفتخر عليه ويتعالى: أنا أغنى
منك وأشرف، وأكثر أنصاراً وخدماً {وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}
أي
أخذ بيد أخيه المؤمن ودخل الحديقة يطوف به فيها ويريه ما فيها من أشجار وثمار
وأنهار وهو ظالم لنفسه بالعُجب والكفر {قَالَ
مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}
أي
ما أعتقد أن تفنى هذه الحديقة أبداً {وَمَا
أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}
أي
وما أعتقد القيامة كائنة وحاصلة، أنكر فناء جنته وأنكر البعث والنشور {وَلَئِنْ
رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا}
أي
ولئن كان هناك بعثٌ - على سبيل الفرض والتقدير كما تزعمُ - فسوف يعطيني الله خيراً
من هذا وأفضل {مُنقَلَبًا} أي مرجعاً وعاقبة ، فكما أعطاني هذا في الدنيا
فسيعطيني في الآخرة لكرامتي عليه {قَالَ
لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}
أي
قال ذلك المؤمن الفقير وهو يراجع أخاه ويجادله {أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلاً}
أي
أجحدت الله الذي خلق أصلك من تراب ثم من منيّ ثم سوَّاك إنساناً سويّا؟ الاستفهام
للتقريع والتوبيخ {لَكِنَّا
هُوَ اللَّهُ رَبِّي}
أي
لكنْ أنا أعترف بوجود الله فهو ربي وخالقي {وَلا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}
أي
لا أُشرك مع الله غيره، فهو المعبودُ وحده لا شريك له {وَلَوْلا
إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ}
أي
فهلاّ حين دخلتَ حديقتك وأُعجبت بما فيها من الأشجار والثمار، قلت: هذا من فضل
الله، فما شاءَ اللهُ كان وما لم يشأْ لم يكن {لا
قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}
أي
لا قدرة لنا على طاعته إلا بتوفيقه ومعونته {إِنْ
تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا}
أي
قال المؤمن للكافر: إن كنت ترى أنني أفقر منك وتعتز عليَّ بكثرة مالك وأولادك
{فَعَسَى
رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}
جواب
الشرط أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يقلب ما بي وما بك من الفقر
والغنى فيرزقني جنةً خيراً من جنتك لإِيماني به، ويسلب عنك نعمته لكفرك به ويخرّب
بستانك {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا
مِنَ
السَّمَاءِ}
أي
يرسل عليها آفةً تجتاحها أو صواعق من السماء تدمّرها {فَتُصْبِحَ
صَعِيدًا زَلَقًا}
أي
تصبح الحديقة أرضاً ملساء لا تثبت عليها قدم، جرداء لا نبات فيها ولا شجر
{أَوْ
يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}
أي
يغور ماؤها في الأرض فيتلف كل ما فيها من الزرع والشجر، وحينئذٍ لا تستطيع طلبه
فضلاً عن إعادته وردّه، وينتهي الحوار هنا وتكون المفاجأة المدهشة فيتحقَّق رجاءُ
المؤمن بزوال النعيم عن الكافر، وفجأة ينقلنا السياق من مشهد البهجة والازدهار إلى
مشهد البوار والدمار{وَأُحِيطَ
بِثَمَرِهِ}
أي
هلكت جنته بالكلية واستولى عليها الخراب والدمار في الزروع والثمار {فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا}
أي
يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفاً وحزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب قال
القرطبي: أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ندماً لأن هذا يصدر من النادم
{وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}
أي
مهشّمة محطمة قد سقطت السقوف على الجدران فأصبحت خراباً يباباً {وَيَقُولُ
يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}
أي
وهو نادم على إشراكه بالله يتمنى أن لم يكن قد كفر النعمة، ندم حين لا ينفع الندم،
قال تعالى {وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
أي
لم تكن له جماعة تنصره وتدفع عنه الهلاك {وَمَا
كَانَ مُنتَصِرًا}
أي
وما كان بنفسه ممتنعاً عن انتقام الله سبحانه، فلم تنفعه العشيرة والولد حين اعتزّ
وافتخر بهم وما استطاع بنفسه أن يدفع عنه العذاب {هُنَالِكَ
الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ}
أي
في ذلك المقام وتلك الحال تكون النصرة لله وحده لا يقدر عليها أحد فهو الوليُّ الحق
الذي ينصر أولياءه {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}
أي
الله خير ثواباً في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وهو خيرٌ عاقبةً لمن اعتمد عليه
ورجاه.
مثل
الحياة الدنيا
{وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ
مِنَ
السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}
هذا
مثلٌ آخر للدنيا وبهرجها الخادع يشبه مثل الجنتين