العلاقات الخارجية:
كانت دول هذا العصر الكبيرة دولة الروم الشرقية
بالقسطنطينية ودولة شرلمان الذي كان يميل إلى تجديد دولة الرومان الغربية ودولة
الأمويين بالأندلس وحدثت في عهده دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى.
مع الروم:
من أعمال الرشيد أنه عزل الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين
وجعلها حيزاً واحداً وسميت العواصم وجعل قاعدتها منبجاً وأسكنها عبد الملك بن صالح
سنة173 وسميت العواصم لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا
انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وكان من هذه العواصم دلوك ورعبان وقورس وانطاكية
وتيزين وما بين ذلك من الحصون ومن تلك المدن الشهيرة طرسوس وقد عمرت في زمن الرشيد
على يد أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس وكان يغزو الصائفة عبد الرحمن بن
عبد الملك بن صالح ووصل سنة175 إلى أقريطية. وفي سنة181 غزا الرشيد الصائفة بنفسه
ففتح عنوة حصن الصفصاف وغزا عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة.
ولم يزل عبد الملك يرى الثغور وحربها وهو قائم بذلك خير
قيام حتى عزله الرشيد وحبسه بعد نكبة البرامكة سنة 187 فولى بعده القاسم بن الرشيد
وسكن منبجاً فغزا الروم وأناخ على حصن قرة وحاصرها ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن
الأشعث فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا فبعثت الروم تبذل320 رجلاً من أسارى المسلمين
على أن يرحل عنهم فأجابهم إلى ذلك ورحل عن حصني قرة وسنان.
كان يملك الروم في ذلك الوقت إربني وكانت في أوائل أمرها
تنوب عن ابنها قسطنطين السادس منذ سنة780 ثم استبدلت بالملك سنة790 فاتفقت مع
الرشيد على الصلح والمهادنة مقابل جزية تقوم بدفعها له وذلك لما رأته من إلحاح
المسلمين عليها بالحرب وعدم قدرتها على الدفاع لوقوعها بين المسلمين من جهة وبين
شارلمان من جهة أخرى وكلتا الدولتين تناوئها العداوة لأن شارلمان كان يريد توسيع
سلطانه وإعادة دولة الرومان إلى بهجتها التي كانت لها في القدم وفي سنة802 نهضت
عليها عصابة رومية فخلعتها عن الملك وملكت مكانها نقفور فعقد معاهدة مع شارلمان
عينت فيها تخوم المملكتين ثم كتب إلى الرشيد من نفقور ملك الروم إلى هارون ملك
العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان
البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها لكن ذلك ضعف النساء
وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وافتد نفسك بما يقع به
المصادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك. فلما
قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه وتفرق
جلساؤه خوفاً من زيادة قول أو فعل يكون منهم واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير
عليه أو يستبد برأيه دونه فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
( بسم
اللَّه الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك
والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام) ثم شخص من يومه وسار حتى أناخ بباب هرقلة
ففتح وغنم واصطفى وأقاد وخرب وحرق واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه كل
سنة فأجابه إلى ذلك فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد وخان الميثاق
وكان البرد شديداً فيئس نقفور من رجعته إليه وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه فما
تهيأ لأحد إخبار الرشيد بذلك إشفاقاً عليه وعلى أنفسهم من الكرة.
ولم تقف الحروب بين الطرفين بعد ذلك وفي سنة189 حصل فداء
بين المسلمين والروم فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به وهذا أول فداء كان بين
المسلمين والروم.
وفي سنة190 غزا الرشيد الصائفة بنفسه ففتح هرقلة وبث الجيوش
والسرايا بأرض الروم وكان دخلها في135 ألف مرتزق سوى الاتباع وسوى المطوعة وسوى من
لا ديوان له وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال فأضر بها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين
يوماً عليها وولى حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر فبلغ حميد قبرص فانتصر على
أهلها.
وفي سنة191 غزا الصائفة هرثمة بن أعين أحد كبار القواد وضم
إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان ومعه مسرور الخادم واليه في النفقات وجميع الأمور
ما خلا الرياسة ومضى الرشيد إلى درب الحدث فرتب هنالك عبد اللَّه بن مالك ورتب سعيد
بن سلم بن قتيبة بمرعش فأغارت الروم عليها وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد مقيم
بها. وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس، فأقام
الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان ثم انصرف إلى الرقة.
وعلى الجملة فإن قوة المسلمين كانت في عهد الرشيد ظاهرة
ظهوراً بيناً على الروم لما كان يقوم به الرشيد بنفسه من الغزو المتوالي ومعه عظماء
القواد وكبار رجال الدولة من عرب وموال وخراسانية.
كان في عهد الرشيد شارلمان بن بابن وكان ملكاً على فرنسا
واستولى على لمبارديا وقاد طوائف السكسون التي كانت في جرمانيا إلى الدين العيسوي
بعد أن كانت وثنية واستولى على المانيا وإيطاليا وكان يرغب أن يكون له اسم كبير في
الديار الشرقية لتكون درجته فوق درجة نقفور ملك القسطنطينية وكان يرغب أن يكون
حامياً للعيسويين في البلاد الإسلامية وخصوصاً زائري القدس فأرسل إلى بغداد سفراء
يستجلبون رضا هارون الرشيد وكان لشارلمان غرض من مصافاة الرشيد فوق ما تقدم وهو
إضعاف الدولة الأموية بالأندلس ففاز سفير شارلمان برضا الرشيد فسر بذلك لأنه عده
فوزاً على نقفور ولهذا لما قدم سفير الرشيد على شارلمان قابله بمزيد الإكرام
واستفاد شارلمان من ذلك التودد فائدتين الأولى تمكنه من حرب الدولة الأموية
بالأندلس وتداخله في مساعدة الخارجين عليها والثانية نيله رضا الرشيد.
وقد أراد أيضاً أن يغتنم غنيمة علمية فإن أوروبا في ذلك
الوقت كانت مهد جهالة لأنه بانقراض الرومانيين وغلبة الأمم المتبربرة على أوروبا
انطفأ مصباح العلم أما الحال في البلاد الإسلامية فكانت على العكس من ذلك علماً
وعملاً سواء في ذلك بغداد وقرطبة فسعى شارلمان في إصلاح قوانين دولته مقلداً هارون
الرشيد وذهب إلى أوروبا أطباء تعلموا في البلاد الإسلامية وكانوا من اليهود فانتخب
منهم شارلمان رجلاً يقال له إسحاق وأرسله إلى الرشيد مصحوباً ببعض الهدايا وبعد
أربع سنين عاد إسحاق مع ثلاثة من رجال الرشيد ومعهم هدايا وهي ساعة وراغنون وفيل
وبعض أقمشة نفيسة، فلما نظرها رجال شارلمان ظنوها من الأمور السحرية وأوقعتهم في
حيرة وهموا بكسر الساعة فمنعهم الامبراطور، وفي ذلك التاريخ اتفقوا على أمور تتعلق
بحماية المسيحيين الذين يتوجهون لزيارة القدس.
أما علاقة بغداد بقرطبة فكانت شر علاقة إذ أن الرشيد كان
ينظر إلى بني أمية نظر الخارجين على دولته فكان يود محوهم ولكن القوم كانوا أكبر من
ذلك وأقوى فقاوموا شارلمان مقاومة عظيمة ولم يتمكن أن يفعل بهم شراً.