يقول
الدكتور ماجد عرسان الكيلاني : ( إن التربية الحديثة تحرم الإنسان من حاجتين
أساسيتين في وجود الإنسان هما : وجود ( مثل اعلى ) يتبناه الناشئة ويفنون فيه .
وتوفير فرص المشاركة الجدية لخدمة المثل الأعلى ، وصرف الطاقات المتفجرة في سبيله
، وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة ، أهمها ما سماه (فقهاء)
التربية الحديثة ب ( المراهقة ) ، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين ،
تبريراً للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات
الدولية .
فالمراهقة
ليست ظاهرة حتمية فس تطور العمر الزمني للإنسان ، إنها مشكلة يمكن تجنبها كلياً في
حياة الفرد ، وأن لا يمر بها الإنسان بها
أبداً ، وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ، ومرض من
أمراضه الاجتماعية وتحصل كالتالي :
في
المجتمعات الرأسمالية الصناعية يجري الفرد ليكون عاملاً منتجاً مستهلكاً ، ولكن في
كثير من الأحيان يصبح عدد العمال أكثر من الوظائف المتوفرة ، ولذلك يبقى الفرد (
مستهلكاً ) غير منتج ، وتتضاعف هذه المشكلة عند الناشئة حيث يبقى دون عمل ولا
رسالة في الحياة تستهلك قدراتهم وطاقاتهم العارمة ، ويطلب إليهم أن يتكدسوا في
شوارع الاحتياط دون عمل أو نشاط حتى تأتي الحاجة إليهم . وفي هذه الحالة بدلاً من
أن يستهلك الانسان طاقته في عمل بناء ، يدخل في صراع مع هذه الطاقات النفسية
والجسدية الباحثة عن متنفس وهو ما أسموه بالمراهقة ، فالمراهقة هي مصارعة طاقات
وقدرات عقلية ونفسية وجسدية معطلة محبوسة ، ولمواجهة هذه المشكلات لجأت المجتمعات
الحديثة إلى وسيلتين :
الأولى :
إطالة مدة الدراسة المدرسية ، حيث يسجن الشباب والشابات في غرف الدرس حوالي ( 25 )
سنة من عمرهم ، ليسمعوا الكلام دون العمل ، وليعانوا من ضيق الطاقات المحبوسة وما
قد يتبع ذلك من انفجارات نفسية وجسدية تتمثل في الانحرافات والممارسات ( الشائعة
والرائجة في الغرب ) .
الثانية :
محاولة إشغال الناشئة بمشروعات الرياضة وبرامج الشباب والفن ، ولكنها حلول سطحية
لا تتناسب ووسع الإنسان الذي أودعه الله فيه ، ولا توفر النشاط إلا لعدد محدود
جداً تصيبهم الأمراض النفسية والاجتماعية أكثر من غيرهم ، عن طريق ألقاب البطولة
الرياضية والفنية التي يطلقونها عليهم .
وقد تجنبت
التربية الإسلامية مرض المراهقة ومضاعفاته حين أوجدت مثلاً أعلى للشباب أو رسالة
يصرف طاقاته خلال الجهاد في سبيلها ، كالجهاد والدعوة
([1]) .
ويقول
العيسوي : ( يؤكد التراث الغربي أن المراهق طريد مجتمع الكبار والصغار معاً ، فإن
تصرف كطفل سخروا منه ، وإن تصرف كرجل رفضه الرجال في مجالسهم ) .
([2]) إذا ينشأ
الاضطراب والقلق عندما تعطل طاقات الشباب وتحبس ، ومن هذه الطاقات الحاجة إلى
الجنس الآخر التي يشعر بها الفتى والفتاة منذ البلوغ ، ولا يسمح له بممارستها حتى
الثلاثين في المجتمع الرأسمالي ، وربما بعد الثلاثين ، حتى يتمكن الفتى من القدرة
المالية على الزواج ، والحاجة إلى تحمل المسئولية والعمل ، والانتماء ... وغيرها
من الحاجات المعطلة عند الفتى والفتاة ، دون أن توجه طاقاتها للتصريف في مجال آخر
، فيحصل من ذلك القلق والاضطراب .
يقول
عبدالعزيز النغيمشي : ( ومن المعلوم أن للإنسان حاجات ومطالب لابد من تحقيقها ،
وللمراهق ثلاث حاجات :
1- نفسية (
كالحاجة إلى العبادة والأمن ) .
2-
واجتماعية ( كالحاجة إلى الرفقة ) .
3- وثقافية
( كالحاجة إلى الاطلاع ) . وهذه الحاجات يرتبط بعضها ببعض ) .
([3])ولا شك أن
لتقدم الحضارة المادية وتعقد الحياة المعاصرة دوراً في تأخر انتهاء مرحلة المراهقة
، لأنها تطيل فترة اعتماد الانسان على أهله وذويه ، وقد تمتد حتى الحادية والعشرين
([4]). أما في المجتمعات البدائية كالمجتمع الرعوي أو الزراعي ، فلا توجد هذه المرحلة ،
كما قالت ( مارغريت ميد ) ، وكما هو ملاحظ في القبائل العربية التي عرف الباحث
بعضها في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين ، قبل أن تبعث هذه القبائل أولادها
إلى المدرسة ، عندئذ كان ابن الثامنة والتاسعة من العمر يساعد والده في الرعي
والزراعة ، وجرت العادة أن يرعى الأولاد الحملان بعد أن تعزل عن أمهاتها من أجل
فطامها ، كما تسند أعمال مناسبة في المجتمع الزراعي – الرعوي
([5]) لأبناء
الثامنة والتاسعة من العمر ، أما أبناء العاشرة فلهم أعمال كافية ، حتى إذا دخل
البلوغ وشب جسمه صار رجلاً تسند إليه كافة أعمال الرجل كالرعي ، والأعمال الزراعية
، وغيرها ويُزوج الفتى والفتاة في العمر(15 - 18) في الغالب . ومن الواضح أن الرعي
والزراعة لا تحتاج إلى إعداد وتدريب مهني ، لذلك كان الطفل في الثامنة قادراً
عليهما ... فالفتى في هذا المجتمع الزراعي – الرعوي يصرف طاقته في العمل ، ويشبع
حاجته في تحمل المسؤولية ، والرفقة ، وحب الاطلاع ، ويتزوج فيشبع حاجته إلى الجنس
قبل أن يشعر بالقلق والاضطراب ، لذلك لا تظهر فترة المراهقة بشكل واضح في مثل هذه
المجتمعات ، وإذا ظهر شيء من الاضطراب عند الفتى سببه إهمال البيت لواجبه التربوي
، ولا يعزى إلى المراهقة . وسبب غياب المراهقة في هذه المجتمعات ، هو صرف الطاقة
وإشباع حاجات الفتى والفتاة . ويقول ( هاريس ) ( 1962م ) : ( ويلاحظ أن تقدم
المراهقين إلى عالم العمل يساعد على الإسراع بنضجهم ، ويؤدي إلى توافقهم مع السلطة
، وينمو شعورهم بالمسؤولية والمكانة ، ويغير اتجاهاتهم نحو العمل ) .
([6]) كما نجد
الفتيان والفتيات الذين ينشأون في بيوت العلم ، فيشبّون على طلب العلم ، وصرف
طاقاتهم في سبيل ذلك ، لا يمرون في فترة قلق واضطراب في عمرهم تسمى المراهقة ، من
هؤلاء جميع العلماء الأعلام كالأئمة الأربعة يرحمهم الله تعالى ، وأئمة الحديث
كالبخاري ومسلم وأبوداود والنسائي والترمذي ... وغيرهم كثير ، ويستنتج الباحث ذلك
من أمرين :
1- نشأتهم
في بيت علم منذ صغرهم ، نسميه البيت المسلم .
2- غزارة
العلم الذي خلفوه للمسلمين بعدهم ، حتى أنهم لم يضيعوا ساعة من عمرهم في القلق
والاضطراب الذي نسميه المراهقة .
ومن هؤلاء
أيضاً شباب عرفهم الباحث كزملاء له أو من
طلابه في المدارس الثانوية ، من بيوت مسلمة ، هؤلاء الشباب لم يلحظ الباحث ولا
غيره عندهم القلق والاضطراب ، وكأنهم لم يمروا في مرحلة المراهقة الحتمية كما يدعي
البعض بل كان الهدوء والأمن والطمأنينة تشع من وجوههم ، وسنرى فيما بعد أن أبناء
الصحابة رضي الله عنهم ، وأبناء التابعين كذلك لم يمروا في فترة المراهقة .
28- ماجد عرسان الكيلاني ، فلسفة التربية الإسلامية ، ص 110-113.
29- عبدالرحمن العيسوي ، ص 49 ، 50 ، 104 ، 115 .
30- عبدالعزيز النغيمشي ، ص 26 وبعدها بتصرف .
31- حامد زهران ، ص 293 .
32- المجتمع الزراعي – الرعوي : هم البدو المستقرون ، الذين تركوا
الرحيل ، واستقروا في أماكن ثابتة بخيامهم ، ويربون الأغنام والماعز ، وربما
البقرأيضاً ، إلى جانب زراعة القمح والشعير والقطن والخضروات ، وهذه مرحلة
انتقالية من حالة الرعي إلى الزراعة وقد
عاش الباحث طفولته في هذا المجتمع على ضفاف نهر العاصي في محافظة حماة بسوريا ،
ورعى الغنم والبقر ، وساهم في الأعمال الزراعية ، في أيام العطل المدرسية طوال مدة
المدرسة الابتدائية والمتوسطة ، أما زملاؤه الذين تركوا المدرسة بعد الابتدائية أو
لم يدخلوها البتة ، فقد بدأوا مساعدة أسرهم في الرعي والزراعة منذ الثامنة من
عمرهم .
33- حامد زهران ، ص 375 .