أمر سليمان عليه السلام فضربت الخيام, واستراح الجيش أمام وادي النمل يوما وليلة,
ولمّا تهيأ الجيش بعد ذلك للرحيل, جمع فتات الطعام, فاتخذ النمل طريقه اليه ينقله
الى بيوته, وتحوّل جيش سليمان عليه السلام الى طريق آخر في الصحراء, فظلوا سائرين
فيها ليالي وأيّاما, ولم يصادفوا واحة ينزلون بها, أو عينا يشربون منها حتى نفذ ما
كان معهم من الماء, وأقبل السقاؤون على سليمان يخبرونه حقيقة الأمر.
واستخدم سليمان عليه السلام ما أتاه الله من
فضل, بل نقول أنه استخدم المعجزة التي حباه الله اياها وهي تسخير الجن له فأصدر
سليمان أمره الى شياطين الجن بحفر الآبار واخراج الماء من باطن الأرض, فحفروا ولكنهم لم يجدوا ماء
فأعادوا الحفر في أكثر من جهة, فما خرج الماء في واحدة منها, وعادوا الى سليمان
بخيبة الأمل.
قيل لسليمان عليه السلام: ان الهدهد وحده هو
الذي يعرف بفطرته أماكن الماء في طبقات الأرض, وهو الذي يستطيع أن يخبرنا عن ماء
قريب من السطح.
قال سليمان لحاجبه: عليّ بالهدهد.
خرج الحاجب وعاد ليقول: ان الهدهد ليس موجودا
يا مولاي.
غضب سليمان عليه السلام, وخرج يتفقد الطير,
فوجد مكان الهدهد خاليا فقال:
{
ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين}
النمل
20.
قال الغراب: لقد رأيته ينطلق نحو الجنوب في
صحبة هدهد آخر من طيور هذه الأرض.
قال سليمان: لأعذبنه عذابا شديدا, أو لأذبحنّه,
أو ليأتيني بدليل قوي يبرر به سبب عصيانه أمري ومخالفته تعليماتي.
فقال "آصف" وزير سليمان عليه السلام: ان هذه
أول مخالفة تصدر من طير ضعيف, كان مثالا للطاعة والولاء, ولا بد أن في الأمر
سرّا.
قال سليمان: أي سر يختفي وراء غياب
الهدهد؟!.
قال آصف: أخشى أن قد اقتربنا من وادي الجان,
واستعملت أبالستهم السحر والخداع فأضلتنا عن مكان الماء وأسرت الهدهد حتى لا يكتشف
لنا ينابيعه.
وقد أخبرني أحد الشياطين أنه سمع في جوف الجبل
عزيف الجن, وحاول أن يتفقد أثرهم فما عرف طريقهم, ولا مكانهم, وأبدى خوفه من أن
نكون قد وقعنا في أسر مارد جبار من شياطين الجن.
تبسّم سليمان عليه السلام لهذا الخبر العجيب,
وقال: الحمد لله الذي هدانا اليهم, وان النصر لقريب.
كان
أمر الماء يشغل سليمان, لأن جنوده يشعرون بالعطش وفي هذا الأمر خطر على حياتهم,
فخرج عليه السلام من خيمته وأمر الريح العاصف بحمل السحب الماطرة اليه. فهبت الرياح
من الشمال والجنوب, وساقت أمامها السحب ونزل المطر غزيرا من السماء, فملئت القدور
والقرب والمواعين وشرب الجيش ماء عذبا, وحمدوا الله جميعا على رحمته, وجليل نعمته, وهذه معجزة من
معجزات نبي الله سليمان عليه السلام.
نعود الى الهدهد الذي ترك مكانه بين الطيور,
بدون اذن من سليمان عليه السلام فانه نظر الى مواعين الماء فوجدها فارغة, فخاف أن
يكوت جيش سيده من العطش, فترك مكانه وأسرع الى الأمام يجدّ في البحث عن الماء, فوج
طبقات الأرض كلها صخور صمّاء, ليس بها عين من عيون الماء, وصادفه في طريقه هدهد آخر
مقبل من الجنوب, فتعارفا وتطوّع هدهد الجنوب, وأرشده الى ينبوع عظيم.
انطلق الهدهدان حتى أتيا واديا خصيبا, ثم وقفا
يستريحان على شجرة في بستان كبير مملوء بالأشجار والورود والأزاهير وفي وسطه بحيرة
واسعة, يخرج الماء اليها من عيون الأرض. فينساب في الجداول بين نبات الأرض
وأشجارها.
فرح هدهد سليمان, واستأذن صديقه هدهد الجنوب أن
يعود الى سيّده ليخبره بما رأى, ولكن هدهد الجنوب استوقفه وقال له: أنت لم تر الا
شيئا صغيرا, فتعال معي لتشاهد عزا وملكا كبيرا خلف هذا الوادي, حتى اذا عدت الى
سيّدك أخبرته بكل ما رأيت, فيكون لخبرك أثر عظيم في نفسه.
قال هدهد سليمان: وماذا تريني بعد؟
قال هدهد الجنوب: انطلق معي لتشاهد
بعينيك.
طار الهدهدان وتخطيا جبلا عاليا, ثم هبطا على
واد أخضر به زرع نضير, وقصور فخمة, ثم اتجها نحو قصر بديع فوق ربوة عالية, فدهش
هدهد الشمال بما رأى من مناظر العز والجاه, ومظاهر الملك والسلطان, فقال لصاحبه:
عجبا ما رأيت مثل هذا الا في ملك سليمان في الشمال.
قال هدهد الجنوب: وما ملك سليمان هذه بجانب ملك
"بلقيس" في الجنوب, اهبط معي من هذه الفتحة لتشاهد هذه المملكة الرائعة وقومها وهم
يعبدون الشمس.
هبط الهدهدان, ورأى هدهد سليمان القوم يسجدون
للشمس من دون الله, فراغه ذلك, ثم ذهب به هدهد الجنوب الى قصر "بلقيس" وأراه عرشها
العظيم, ثم قال له: انظر الى هذه اللؤلؤة الكبيرة, هل عند سيّدك مثلها؟
قال هدهد سليمان: كيف وصلت اليها هذه
اللؤلؤة؟
قال هدهد الجنوب: جاء بها عفريت من الجن منذ
شهر.
قال هدهد سليمان: اذن هذه لؤلؤة سليمان التي
خطفها عفريتكم من يد الجني الذي صادها والويل لكم من سليمان.
قال هدهد الجنوب: ليس الأمر كما تظن ف "بلقيس"
تملك الجن كما تملك الانس, وأخشى على ملكك أن يغترّ بقوته, ويقدم على محاربتها,
فيذوق ذل الأسر والهوان على يد جنودها.
ورغم أن هدهد الجنوب بالغ في القول على علاقة
الجن ببلقيس لأن هذا الأمر لم يعطى الا لسليمان عليه السلام, فقد سمع هدهد سليمان
كل هذا, ورأى ما رأى, ثم عاد مسرعا الى سليمان, فوجد سحبا كثيرة تسقط الأمطار
والقوم يشربون.
وصل الهدهد, هدهد سليمان, الى مقرّه, وتقدّم في
ذلة وخضوع الى الملك سليمان فوجده ساخطا عليه, وخاف على نفسه سوء العاقبة.
قال سليمان: أين كنت أيها الهدهد؟ وما سبب
مخالفتك أمري؛ وتركك مكانك بدون اذني؟!
قصّ الهدهد على سليمان قصته كلها.
ابتسم سليمان وقال: { سننظر أصدقت أم
كنت من الكاذبين* اذهب بكتابي هذا فألقه اليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا
يرجعون} النمل
27-28.
حمل الهدهد رسالة سليمان الى بلقيس وطار بها
الى قصرها فوجدها جالسة على عرشها, وأمامها حاشيتها ووزراؤها فأسقط الخطاب في حجرها
واختفى وراء ستار النافذة.
كانت
بلقيس قد عقدت مجلس الشورى للنظر في الأخبار التي جاء بها الجن عن سليمان وجيوشه,
فلما وقعت الرسالة في حجرها عجبت لذلك, ثم قرأتها على الحاضرين, جاء في
الرسالة:{ انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم*
ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين} النمل
30-31.
فقالت لهم بلقيس:{
أفتوني في أمري}.
قالوا:{ نحن أولو
قوة وأولو بأس شديد والأمر اليك فانظري ماذا تأمرين}.
قالت بلقيس:{ ان
الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} ولقد سمعت بسليمان
من قبل, ولا أرغب في حرب أخشى منها الهوان لقومي.
واني مرسلة الى سليمان بهدية, فان كان من طلاب
الدنيا قنع بها ورجع عنها, وان رفضها فهو صاحب مبدأ, لا ينثني عنه, وعند ذلك نذهب
اليه مسلمين قبل أن يأخذنا أسرى مقيّدين.
ذهب
رسول بلقيس الى سليمان وقدّم بين يديه صندوقا مملوءا بالذهب والأحجار الكريمة.
قال
سليمان: من أين هذا؟
قال:
هدية من ملكتنا "بلقيس" الى الملك سليمان.
قال سليمان: {
أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون}
النمل
36.
{ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها
ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون}
النمل 37.
عاد
الرسول الى بلقيس, وأخبرها بما سمع, فأمرت قومها أن يحملوا راية بيضاء, وخرجت بهم
الى سليمان عليه السلام في موكب عظيم, ولكن سليمان سيستبق وصول هذا الموكب بمعجزة
تدهش لها بلقيس, ترى ما هذه المعجزة, وماذا ستكون؟