استقبال
القبلة:
اتفق
الفقهاء على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، لقوله
تعالى:
{فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] إلا في حالتين: في شدة الخوف، وصلاة
النافلة للمسافر على الراحلة. وقيد المالكية والحنفية شرط الاستقبال بحالة الأمن من
عدو وسبع وبحالة القدرة، فلا يجب الاستقبال مع الخوف، ولا مع العجز كالمربوط
والمريض الذي لا قدرة له على التحول ولا يجد من يحوله، فيصلي لغيرها إلى أي جهة
قدر، لتحقق العذر.
واتفق
العلماء على أن من كان مشاهداً معايناً الكعبة: ففرضه التوجه إلى عين الكعبة
يقيناً. ومثله عند الحنابلة: أهل مكة أو الناشئ بها وإن كان هناك حائل محدث
كالحيطان بينه وبين الكعبة.
وأما
غير المعاين للكعبة ففرضه عند الجمهور (غير الشافعية) إصابة جهة الكعبة،
لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة"وهذا في قبلة أهل المدينة
والشام، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه
لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا
صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول
الصف إلا بقدرها.
وقال
الشافعي
في الأم: فرضه - أي الغائب عن مكة - إصابة العين أي عين الكعبة، لأن من لزمه فرض
القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] أي أنه يجب عليه التوجه إلى
الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
والمطلوب
عند أئمة المذاهب في إصابة جهة الكعبة محاذاتها ببدنه وبنظره إليها، بأن يبقى شيء
من الوجه مسامتاً (محاذياً) للكعبة، أو لهوائها عند الجمهور غير المالكية، بحيث لو
امتد خط من وجهه في منتصف زاوية قائمة، لكان ماراً على الكعبة أو هوائها، والكعبة:
من الأرض السابعة إلى العرش، فمن صلى في الجبال العلية والآبار العميقة السافلة،
جاز، كما يجوز على سطحها وفي جوفها، ولو افترض زوالها، صحت الصلاة إلى موضع
جدارها.
وقال
المالكية:
الواجب استقبال بناء الكعبة، ولا يكفي استقبال الهواء لجهة
السماء.
الاجتهاد
في القبلة:
ويجب
التحري والاجتهاد في القبلة أي بذل المجهود لنيل المقصود بالدلائل على من كان
عاجزاً عن معرفة القبلة، واشتبهت عليه جهتها، ولم يجد أحداً ثقة يخبره بها عن علم
يقين ومشاهدة لعينها، فمن وجده اتبعه، لأن خبره أقوى من
الاجتهاد.
والدليل
على وجوب التحري: ما روى عامر بن ربيعة أنه قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل من على حياله، فلما أصبحنا
ذكرنا ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فنزلت {فأينما تولوا فثَمَّ وجه
الله} [البقرة: 115] رواه الترمذي ابن ماجه.
الخطأ
في الاجتهاد:
وإن
تيقن الخطأ في اجتهاده، فقال الحنفية: إن كان في الصلاة استدار وبنى عليها
أي أكمل صلاته، فلو صلى كل ركعة لجهة جاز. وإن كان بعد الصلاة صلى الصلاة القادمة،
ولا إعادة عليه لما مضى، لإتيانه بما في وسعه، قال علي: "قبلة المتحري جهة قصده"
ومن صلى بلا تحرٍ وأصاب، لم تصح صلاته، لتركه فرض التحري، إلا إذا علم إصابته بعد
فراغه.
ومن
أمَّ قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة وصلى إلى جهة أخرى، وتحرى من خلفه، وصلى كل
واحد منهم إلى جهة، وكلهم خلف الإمام، فمن علم منهم بحال إمامه تفسد صلاته، ومن لم
يعلم ما صنع الإمام، صحت صلاته وأجزأه، لوجود التوجه إلى جهة التحري، ومخالفة
المأمومين لإمامهم لا تمنع صحة الصلاة، كالصلاة في جوف
الكعبة.
وقال
المالكية: إن تبين المجتهد في القبلة خطأ: يقيناً أو ظناً، في أثناء الصلاة، قطعها
إن كان بصيراً منحرفاً كثيراً: بأن استدبر أو شرّق أو غرب، وابتدأها بإقامة، ولا
يكفي تحوله لجهة القبلة.
وإن
كان أعمى، أو كان منحرفاً انحرافاً يسيراً، فلا إعادة عليه. وإن كان بصيراً منحرفاً
كثيراً أو ناسياً للجهة التي أداه اجتهاده إليها، أو التي دله عليها العارف، أعاد
في الوقت.
وقال
الشافعية:
إن تيقن الخطأ في الصلاة أو بعدها، استأنفها أي أعادها من جديد، لأنه تعين له يقين
الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فلم يعتد بما مضى، كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص
بخلافه.
وإن
تغير اجتهاده للصلاة الثانية، فأداه اجتهاده إلى جهة أخرى، صلى الصلاة الثانية إلى
الجهة الثانية، ولا يلزمه إعادة ما صلاه إلى الجهة الأولى، كالحاكم إذا حكم
باجتهاد، ثم تغير اجتهاده، لم ينقض ما حكم فيه بالاجتهاد
الأول.
ويجتهد
لكل فرض، فإن تحير، صلى كيف شاء، ويقضي وجوباً لأن ذلك أمر
نادر.
وقال
الحنابلة:
إن بان له يقين الخطأ وهو في الصلاة، استدار إلى جهة الكعبة، وبنى على ما مضى من
الصلاة، كما قرر الحنفية، لأن ما مضى منها كان صحيحاً، فجاز البناء عليه، كما لو لم
يبن له الخطأ. وكذلك تستدير الجماعة مع الإمام إن بان لهم الخطأ في حال
واحدة.
وإن
تبين خطأ اجتهاده بعد الصلاة، بأن صلى إلى غير جهة الكعبة يقيناً لم يلزمه الإعادة.
ومثل المجتهد في هذا: المقلد الذي صلى بتقليده، وهذا موافق لمذهب
الحنفية.
أما
من صلى في الحضر إلى غير الكعبة سواء أكان بصيراً أم أعمى، ثم بان له الخطأ، فعليه
الإعادة، لأن الحضر ليس بمحل الاجتهاد، لأن من فيه يقدر على معرفة القبلة
بالمحاريب، ويجد من يخبره عن يقين غالباً، فلا يكون له الاجتهاد، كالقادر على النص
في سائر الأحكام.
والخلاصة
: أن الحنفية والحنابلة يقررون البناء على الصلاة في أثنائها، ولا يوجبون
الإعادة في حال الاجتهاد. وتبين الخطأ بعد الفراغ من الصلاة. والمالكية
والشافعية يقررون قطع الصلاة إذا عرف الخطأ فيها، وإعادة الصلاة إذا عرف الخطأ
بعدها، لكن المالكية يوجبون الإعادة في الوقت الضروري فقط. والشافعية
يوجبون الإعادة مطلقاً في الوقت وبعده، لتبين فساد الأولى.
هذا
ويتعلق بشرط الاستقبال بحث أمرين: الصلاة في الكعبة، وصلاة المسافر على
الراحلة.
الصلاة
في الكعبة:
عرفنا
أنه لابد شرعاً من استقبال جزء من الكعبة، وعند غير المالكية: أو هوائها إلى
السماء، والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل الكعبة المشرفة يوم فتح مكة مرة
واحدة وصلى فيها، روى ابن عمر أنه قال لبلال: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في
الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين السَّاريتين عن يسارك إذا دخلتَ، ثم خرج، فصلى في
وجهة الكعبة ركعتين" رواه البخاري وأحمد.
وقد
أقر الفقهاء مشروعية الصلاة في جوف الكعبة، فقال الحنفية: يصح أداء الصلاة فرضاً أو
نفلاً ولو جماعة في الكعبة أو على سطحها وإن لم يتخذ سترة، لكنه يكره الصلاة فوقها،
لإساءة الأدب، باستعلائه عليها، وترك التعظيم المطلوب لها، ونهي النبي عنه، وإن صلى
الإمام بجماعة، فجعل بعضهم ظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن جعل منهم ظهره إلى وجه
الإمام لم تجز صلاته، لتقدمه على الإمام.
وإذا
صلى الإمام في المسجد الحرام، تحلَّق الناس حول الكعبة، وصلوا بصلاة الإمام، فمن
كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، جازت صلاته إذا لم يكن في جانب الإمام،لأن
التقدم والتأخر إنما يظهر عند اتحاد الجانب.
وتكره
السنن المؤكدة كالوتر والعيدين وركعتي الفجر وركعتي الطواف.
ولا
تجوز صلاة الفرض في الكعبة أو في الحِجْر، فإن وقع، أعاده بوقت ضروري (وهو في
الظهرين للاصفرار وفي العشاءين الليل كله، وفي الصبح حتى طلوع الشمس). وتبطل صلاة
الفرض على ظهر الكعبة، ويعاد أبداً،لأن الواجب استقبال البناء، ولا يكفي استقبال
الهواء لجهة السماء.
وقال
الشافعية:
تجوز الصلاة فرضاً أو نفلاً في الكعبة أو على سطحها إن استقبل من بنائها أو ترابها
شاخصاً (سترة) ثابتاً كعتبة وباب مردود أو عصا مسمَّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع
تقريباً فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عنه ثلاثة أذرع فأكثر.
وإنما
صح استقبال هوائها لمن هو خارج عنها، فلأنه يعد حينئذ متوجهاً إليها كالمصلي على
أعلى منها كأبي قبيس، بخلاف القريب منها المصلي فيها أو
عليها.
وأجاز
الحنابلة
أيضاً صلاة النافلة في الكعبة أو على سطحها، ولا تصح صلاة الفريضة لقوله تعالى:
{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]
والمصلي فيها أو على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف
والمسامحة بدليل صلاتها قاعداً، أو إلى غير القبلة في السفر على
الراحلة.