بَين
يَدَي السُّورَة
سورة
الرعد
من السور المدنية، التي تتناول المقاصد الأساسية للسور المدنية، من تقرير
"الوحدانية" و "الرسالة" و "البعث والجزاء" ودفع الشبه التي يثيرها
المشركون.
*
ابتدأت
السورة الكريمة بالقضية الكبرى، قضية الإِيمان بوجود الله ووحدانيته، فمع سطوع الحق
ووضوحه، كذَّب المشركون بالقرآن، وجحدوا وحدانية الرحمن، فجاءت الآيات تقرر كمال
قدرته تعالى، وعجيب خلقه في السماوات والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار،
والزروع والثمار، وسائر ما خلق الله في هذا الكون الفسيح
البديع.
*
ثم
تلتها الآيات في إثبات البعث والجزاء، ثم بعد ذكر الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة
على انفراده جل وعلا بالخلق والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة، والنفع والضر، ضرب
القرآن مثلين للحق والباطل أحدهما: في الماء ينزل من السماء، فتسيل به الأودية
والشعاب، ثم هو يجرف في طريقه الغثاء، فيطفو على وجهه الزَّبد الذي لا فائدة فيه
والثاني : في المعادن التي تُذاب لتصاغ منها الأواني وبعض الحلية كالذهب والفضة،
وما يعلو هذه المعادن من الزبد والخبث، الذي لا يلبث أن يذهب جفاءً ويضمحل ويتلاشى،
ويبقى المعدن النقي الصافي {أَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ
مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا
رَابِيًا
..} الآيات فلذلك مثل الحق والباطل.
*
وذكرت
السورة الكريمة أوصاف أهل السعادة وأهل الشقاوة، وضربت لهم المثل بالأعمى والبصير،
وبينت مصير كلٍ من الفريقين، ثم ختمت بشهادة الله لرسوله بالنبوة والرسالة وأنه
مرسل من عند الله تعالى.
التسِميَة:
سميت
{سورة الرعد} لتلك الظاهرة الكونية العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله
وسلطانه، فالماء جعله الله سبباً للحياة، وأنزله بقدرته من السحاب، والسحابُ جمع
الله فيه بين الرحمة والعذاب، فهو يحمل المطر ويحمل الصواعق، وفي الماء الإِحياء،
وفي الصواعق الإِفناء، وجعل النقيضين من العجائب كما قال القائل: جمعُ النقيضين من
أسرار قدرته: هذا السحاب به ماء به نار. فما أجلَّ وأعظم قدرة الله
تعالى.
القرآن
حق
{المر}
إشارة إلى إعجاز القرآن { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي هذه آيات القرآن
المعجز، الذي فاق كل كتاب {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
الْحَقُّ} أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس
بالباطل، ولا يحتمل الشك والتردّد {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ} أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس.
من
مظاهر قدرة الله في السماوات والأرض
{اللَّهُ
الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}
أي خلقها مرتفعة البناء، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها
وتنظرونها بغير دعائم، وذلك دليل وجود الخالق المبدع الحكيم {ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ} أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ
ولا تعطيل {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ
مُسَمًّى} أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى
زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي يصرِّف بحكمته
وقدرته أمور الخلق وشؤون الملكوت من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة وغير ذلك
{يُفَصِّلُ الآيَاتِ} أي يبيّنها ويوضّحها {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه، لأن من
قدر على ذلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الأَرْضَ} أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة، وهذا لا ينافي
كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق
ليستقر عليها الإِنسان والحيوان، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش
عليها، قال ابن جزي: ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير، لأن كل
قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدَتها، وإنما التكوير لجملة الأرض {وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسيَ} أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا تضطرب بأهلها
كقوله {أن تميدَ بكم} {وَأَنْهَارًا} أي وجعل فيها الأنهار الجاريات
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} أي جعل فيها من جميع
أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق
سنته الحكيمة، وقال أبو السعود: أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة
في الدنيا ضربين وصنفين، إمّا في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو
والحامض، أو في القَدْر كالصغير والكبير، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه
ذلك {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد
ما كان مضيئاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إنَّ
في عجائبِ صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر،
وخُصَّ "المتفكرون" بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا
يُدرك إلا بالتفكر {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} أي في الأرض
بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض، قال ابن عباس: أرضٌ طيبة، وأرضٌ
سَبْخة تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ}
أي بساتين كثيرة من أشجار العنب {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ
صِنْوَانٍ} أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب،
منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}
أي الكل يسقى بماء واحدٍ، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفة الطعوم، قال
الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيضُ والأسود،
بعضُها حلوٌ، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي علامات باهرة ظاهرة لمن
عقل وتدبَّر، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة.
إنكار
المشركين البعث
{وَإِنْ
تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ}
أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً
هل سنبعث من جديد؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء
ما ذكرنا من السماوات والأرض، والأشجار والثمار، والبحار والأنهار قادرٌ على
إعادتهم بعد موتهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي هؤلاء
الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي
أَعْنَاقِهِمْ} أي يُغلُّون بالسلاسل في أعناقهم يوم القيامة {وَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً
لا يموتون فيها ولا يُخْرجون {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ} أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء
والعافية، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ الْمَثُلاتُ} أي وقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا
يعتبرون ولا يتعَّظون؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى
ظُلْمِهِمْ} أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا
ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} أي شديد
العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب من ذنوبه. قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه
ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول المشركون من كفار قريش
هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!! قال أبو
حيّان: لم يعتدُوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع
الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آياتٍ أخرى {إِنَّما
أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد
إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما
الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد.
علم
الله المحيط بكل شيء
{اللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى}
أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم
ناقص؟ حسنٌ أو قبيح {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} أي وما تنقصه الأرحامُ
بإلقاء الجنين قبل تمامه {وَمَا تَزْدَادُ} أي وما تزداد على الأشهر التسعة،
قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر
من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام
{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله
تعالى بقدر محدود لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة {عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى
شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} أي
العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزّه عن المشابهة
والمماثلة {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي
يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة {وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} أي ويستوي عنده كذلك من هو
مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح
النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ}
أي لهذا الإِنسان ملائكة موكّلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس
في الدوائر الحكومية {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي من أمام
الإِنسان ومن ورائه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي يحفظونه من
الأخطار والمضارّ بأمره تعالى، قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به
يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا
يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله
الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا
تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر "أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل
أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون
منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون" {وَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم
{فَلا مَرَدَّ لَهُ} أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد {وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ} أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب
والبلاء.
مظاهر
ربوبيته وقدرته
سبب
النزول:
نزول
الآية (13):
{ويرسل
الصواعق}:
ذكر الرواة سببين لنزول هذه الآية، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس: أن أَرْبَدَ
بن قيس وعامر بن الطُّفَيْل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
عامر: يا محمد: ما تجعل إليَّ إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم، قال:
أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، فخرجا، فقال عامر: إني أَشْغَل
عنك وجه محمد بالحديث، فأضربه بالسيف، فرجعا، فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك،
فقام معه، ووقف يكلمه، وسلَّ (أرْبَد) السيف، فلما وضع يده على قائم السيف، يبست،
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه، فانصرف عنهما، فخرجا، حتى إذا كانا
بالرَّقْم (موضع) أرسل الله على أربد صاعقة، فقتلته، فأنزل الله: {الله يعلم ما
تحمل كل أنثى} إلى قوله {شديد المحال}. وأما عامر فأرسل الطاعون عليه،
فخرجت فيه غُدَّة كغدة الجمل، ومات في بيت سلولية.
وذكر
الواحدي ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والنسائي والبزار عن أنس بن مالك رضي
الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرّة إلى رجل من فراعنة
العرب، فقال: اذهب فادعه لي، فقال: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: اذهب فادعه
لي، قال: فذهب إليه، فقال: يدعوك رسول الله، قال: وما الله، أمن ذهب هو، أو من فضة
أو من نحاس؟ فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقال: وقد أخبرتك أنه
أعتى من ذلك، فقال: ارجع إليه الثانية فادعه، فرجع إليه، فعاد عليه مثل الكلام
الأول، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع إليه، فرجع الثالثة،
فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينا هو يكلمني، إذ بعثت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت،
فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحَالِ}.
{هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ}
هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف
من خلال السحاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق
وطمعاً في الغيث، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة، وقد يكون وراءه المطر
المدرار الذي به حياة البلاد والعباد {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} أي
وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير {وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْملائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} أي يسبح الرعد له تسبيحاً
مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه، وتسبيحُ الرعد
حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا
بما هو حقٌّ كما قال {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ
يَشَاءُ} أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء {وَهُمْ
يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي
قدرته على البعث {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} أي وهو تعالى شديد القوة
والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} أي
لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من
دون الله {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} أي لا يستجيبون لهم دعاءً،
ولا يسمعون لهم نداءً {إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ
فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه
ويناديه ليصل الماء إلى فمه، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع، قال أبو
السعود: شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال
عطشان هائم لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه
وليس الماء ببالغٍ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه {وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضياع
وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ} أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض {طَوْعًا
وَكَرْهًا} أي طائعين وكارهين، قال الحسن: المؤمن يسجد طوعاً، والكافر
يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ} أي وتسجد ظلالهُم أيضاً لله في أول النهار وأواخره، والغرضُ
الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء، ودان له كل شيء، بأنه
ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام
لأمره تعالى.
وحدانية
الله وحال المؤمن والمشرك تجاهالوحدانية
{قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}
أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما؟ والسؤال
للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله {قُلِ اللَّهُ} أي قل لهم تقريعاً
وتبكيتاً: اللهُ خالقُهما {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا
يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة
الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم،
ولا على دفع الضُرّ عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} هذا
تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن،
وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير، وكما لا تستوي
الظلمات والنور، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر ضياء الحق، والمشرك الذي عمي عن
رؤية ذلك الضياء، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير،
والفارق بين الإِيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام {أَمْ
جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ} هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون
آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله من
خلق آلهتهم؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة
المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله، وذلك أسخف وأحط ما
تصل إليه عقول المشركين، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح {قُلْ
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي الله الخالق
لجميع الأشياء لا خالق غيره، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية، الغالب لكل شيء،
وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره.
مَثَلُ
الحق والباطل وجزاء المطيعين والعاصين
{أَنزَلَ
مِنَ
السَّمَاءِ
مَاءً}
أي أنزل تعالى من السماء مطراً {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي فجرت
مياه الأودية بمقدار سعتها كل بحَسَبه، فالكبير بمقدار كبره، والصغير بمقدار صغره
{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي حمل السيل الذي حدث من الأمطار
زبداً عالياً فوقه وهو ما يحمله السيل من غثاء، ورغوة تظهر على وجه الماء، قال
الطبري: هذا مثلٌ ضربه الله للحق والباطل، والإِيمان والكفر، فمثل الحق في
ثباته، والباطل في اضمحلاله، مثلُ الماء الذي أنزله الله من السماء إلى الأرض،
فاحتمل السيل زبداً عالياً، فالحق هو الماء الباقي الذي يمكث في الأرض، والزبد الذي
لا يُنتفع به هو الباطل، وهذا أحد مثلي الحق والباطل، والمثل الآخر قوله تعالى
{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مِثْلُهُ} أي ومن الذي يوقد عليه الناس من المعادن كالذهب والفضة
والنحاس، مما يُسبك في النار طلب الزينةِ أو الأشياء التي يُنتفع بها كالأواني زبدٌ
مثل زبد السيل، لا يُنْتفع به كما لا يُنْتفع بَزَبد السيل {كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي كذلك يضرب الله المَثَل للحق والمَثَل
للباطل، فمثلُ الحق في ثباته واستقراره كمثل الماء الصافي الذي يستقر في الأرض
فينتفع منه الناس، ومثل الباطل في زواله واضمحلاله كمثل الزبد والغثاء الذي يقذف به
الماء يتلاشى ويضمحل {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي فأما الزبد
الذي لا خير فيه مما يطفو على وجه الماء والمعادن فإنه يرمي به السيل ويقذفه ويتفرق
ويتمزّق ويذهب في جانبَيْ الوادي {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ} أي وأمّا ما ينتفع الناس به من الماء الصافي، والمعدن الخالص فيبقى
ويثبت في الأرض {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} أي مِثْلَ
المَثَلين السابقين يبيّن الله الأمثال للحق والباطل، والهدى والضلال ليعتبر الناس
ويتعظوا {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى} أي للمؤمنين
الذين استجابوا لله بالإِيمان والطاعة المثوبةُ الحسنى وهي الجنة دار النعيم
{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي لم يجيبوا ربهم إلى الإِيمان به
وهم الكافرون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي لو كان لهم
جميع ما في الدنيا من الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي ومثلَ جميع ما في
الدنيا {لافْتَدَوْا بِهِ} أي لبذلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم ليتخلصوا من عذاب
الله {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أي لهم الحساب السيء، قال
الحسن: يُحاسبون بذنوبهم كلها لا يُغفر لهم منها شيء {وَمَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ} أي المكان الذي يأوون إليه يوم القيامة نار جهنم {وَبِئْسَ
الْمِهَادُ} أي بئس هذا المستقر والفِراش الممهد لهم في النار {أَفَمنْ
يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ
أَعْمَى} الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي هل يستوي من آمن وصدَّق بما نزل عليك
يا محمد ومن بقي يتخبط في ظلمات الجهل والضلال لا لُبَّ له كالأعمى؟ والمراد به عمى
البصيرة قال ابن عباس نزلت في حمزة وأبي جهل {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ} أي إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول
السليمة.
أوصاف
أولي الألباب
ثم
عدَّد تعالى صفاتهم فقال{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} أي
يتمون عهد الله الذي وصاهم به وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده {وَلا
يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} أي لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة
بينهم وبين الله، وبين العباد أيضاً {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها {وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ} أي يهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً {وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ} أي يخافون الحساب السيء المؤدي لدخول النار، فهم لرهبتهم جادّون في
طاعة الله، محافظون على حدوده {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ} أي صبروا على المكاره طلباً لمرضاة الله {وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ} أي أدَّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها {وَأَنفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي أنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها
الله عليهم في الخفاء والعلانية {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}
أي يدفعون الجهلَ بالحلم والأذى بالصبر، وقال ابن عباس: يدفعون بالعمل
الصالح السيء من الأعمال بمعنى يفعلون الحسنات ليدرءوا بها السيئات وفي الحديث
(وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}
أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة وهي الجنة وقد جاء تفسيرها في قوله
{جَنَّاتُ عَدنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَآئِهِم وَأَزْوَاجِهِم
وَذُرِّيَّاتِهِم}
أي جنات إقامة خالدة يدخلها أولئك الأبرار ومن كان صالحاً من آبائهم ونسائهم
وأولادهم، ليأنسوا بلقائهم ويتمَّ بهم سرورهم، وإن لم يكونوا يستحقون هذه المنازل
العالية بأعمالهم، فترفع منازل هؤلاء إكراماً لأولئك وذلك فضل الله، ثم إن لهم
إكراماً آخر بيّنه بقوله {وَالْمَلائكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ}
أي والملائكةُ تدخل عليهم للتهنئة من كل باب من أبواب الجنة يقولون لهم
{سَلام عَلَيْكُم بِما
صَبَرتُم}
أي سلمتم من الآفات والمحن بصبركم في الدنيا، ولئن تعبتم فيما مضى فلقد استرحتم
الساعة، وهذه بشارة لهم بدوام السلامة { فَنِعمَ عُقْبَى
الدَّارِ}
أي نعمت هذه العاقبة الحميدة عاقبتكم وهي الجنة بدل النار.
أوصاف
الكافرين الذميمة
ولما
ذكر تعالى أوصاف المؤمنين التسعة أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة فقال
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون
عهودهم بعدما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم من طاعته والإِيمان به
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} أي يقطعون الرحم التي
أمر الله بوصلها {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} {أُوْلَئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ} أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من القبائح لهم البعد من رحمته،
والطردُ من جنته {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي لهم ما يسوؤهم في الدار
الآخرة وهو عذاب جهنم على عكس المتقين.
الرزق
والهداية والاطمئنان من الله
{اللهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}
أي يوسّع على من يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء حسب الحكمة والمصلحة
{وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا
فرح أشرَ وبطر، وهو إخبار في ضمنه ذمٌ وتسفيه لمن فرح بالدنيا ولذلك حقّرها بقوله
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ} أي قليل وشيء
حقير بالنظر إلى الآخرة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي ويقول كفار مكة هلاّ أُنزل على محمد معجزة من ربه مثل
معجزة موسى في فلق البحر، ومعجزة عيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك {قُلْ إِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي قل لهم يا
محمد الأمر بيد الله وليس إليَّ، يُضلُّ من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآياتُ
والنُذُّر شيئاً، ويرشد إلى دينه من أراد هدايته لأنه رجع إلى ربه بالتوبة
والإِنابة، قال ابن جزي: خرج بالكلام مخرج التعجب حين طلبوا آية والمعنى قد
جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن وآياتٍ كثيرة فعميتُم عنها، وطلبتم غيرها،
وتماديتم على الكفر فإنه تعالى يضل من يشاء مع ظهور الآيات، ويهدي من يشاء دون ذلك
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} هذا بدلٌ
والمعنى يهدي أهل الإِنابة وهم الذين آمنوا وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله
وتوحيده، وجيء بصيغة المضارع لإِفادة دوام الاطمئنان واستمراره {أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم فإن بذكر الله
تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين، فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين
إذا ذكر الله اشمأزتْ قلوبهُم {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عينٍ
لهم ونعم ما يلقون من الهناءة والسعادة في المرجع والمنقلب، قال ابن عباس:
{طُوبَى لَهُمْ} فرحٌ وقرة عين.
صاحب
الرسالة، وبيان عظمة الله وقدرته
سبب
النزول:
نزول
الآية (31):
{ولو
أن قرآنا}:
أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان كما
تقول، فأرنا أشياخنا الأُوَل، نكلمهم من الموتى، وافسح لنا هذه الجبال - جبال مكة
التي قد ضمتنا، فنزلت: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال}
الآية.
{كَذَلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ}
أي كما أرسلنا الأنبياء من قبلك كذلك أرسلناك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم
كثيرة، فهي آخر الأمم وأنتَ خاتم الأنبياء {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لتبلّغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم {وَهُمْ
يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} أي والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل
شيء {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين
إن الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته هو ربي الذي آمنتُ به لا معبود لي سواه
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي عليه وحده اعتمدت، وإليه
توبتي ومرجعي فيثيبني على مجاهدتكم، والغرضُ تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما
يلقاه من كفار قريش من الجحود والعناد فقد كذَّب قبلهم الأمم {وَلَوْ أَنَّ
قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لو كان كتابٌ من الكتب المنزّلة سُيرت
بتلاوته الجبال وزعزعت عن أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} أي شُققت
به الأرض حتى تتصدَّع وتصير قطعاً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي خوطب
به الموتى حتى أجابوا وتكلموا بعد أن أحياهم الله بتلاوته عليهم، وجواب {لو}
محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكونه غايةً في الهداية والتذكير، ونهايةً من
الإِنذار والتخويف، وقال الزجاج: تقديره "لما آمنوا" لغلوهم في المكابرة
والعناد، وتماديهم في الضلال والفساد {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} بلْ
للإِضراب والمعنى: لو أن قرآناً فُعل به ما ذُكر لكان ذلك هذا القرآن، ولكنَّ الله
لم يجبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه هو المالك لجميع الأمور والفاعل لما يشاء
منها من غير أن يكون لأحدٍ عليه تحكّمٌ أو اقتراح {أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} أي أفلم يقنط
وييأس المؤمنون من إيمان الكفار، ويعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم لأن
الأمر له، ولكنْ قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} أي ولا يزال كفار مكة يصيبهم
بسوء أعمالهم وكفرهم داهيةٌ تقرع أسماعهم وتقلق بالهم من صنوف البلايا والمصائب
{أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} أي أو تحلُّ القارعة والداهية
قريباً من ديارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ
اللَّهِ} بإظهار الإِسلام وانتصارك عليهم بفتح مكة {إِنَّ اللَّهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي لا يخلف وعده لرسله وأوليائه بنصرتهم على أعدائه
{وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية وتأنيس للنبي صلى الله
عليه وسلم أي كما استهزأ بك المشركون فقد استهزأ المجرمون برسلهم وأنبيائهم
{فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم وتركتهم
في أمنٍ وَدَعة ثم أخذتهم بالعذاب {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فكيف كان
عقابي لهم على الكفر والتكذيب؟ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ} أي أفمن هو رقيب حفيظ على عمل كل إنسان لا يخفى عليه شيء من أعمال
العباد وهو الله تعالى، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي
لا تسمع ولا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً، قال الفراء : وتُرك جوابهُ لأن
المعنى معلومٌ وقد بيّنه بعد هذا بقوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} كأنه
قيل: هل الله كشركائهم؟ وقال الزمخشري: هذا احتجاجٌ عليهم في إشراكهم بالله
يعني أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفسٍ صالحة أو طالحة بما كسبت من خير أو شر
وقد أعدَّ لكلٍ جزءاه كمن ليس كذلك {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ
سَمُّوهُمْ} أي وجعل المشركون آلهة عبدوها معه من أصنام وأنداد في منتهى العجز
والحقارة والجهالة، قل لهم يا محمد: سمّوهم لنا وصفوهم لننظر هل لهم ما يستحقون به
العبادة والشركة مع الله؟ {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي
الأَرْضِ} أي أم تخبرون الله بشركاء لا يعلمهم سبحانه وهو استفهام للتوبيخ
{أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ}
أي أم تسمونهم شركاء بظنٍ باطلٍ فاسد لا حقيقة له، لفرط الجهل وسخافة العقل
{بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} أي زيَّن لهم الشيطان ذلك
الكفر والضلال {وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ} أي مُنعوا عن طريق الهدى
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله الله فما له
أحدٌ يهديه {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لهؤلاء الكفرة
عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا بالقتل والأسر وسائر المحن {وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَقُّ} أي ولعذابهم في الآخرة أثقل وأشد إيلاماً من عذاب الدنيا
{وَمَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ
مِنْ وَاقٍ}
أي وليسلهم من يحميهم من عذاب الله أو يدفع عنهم سخطه
وانتقامه.
[/r